الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قول الرافضي : " لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه " .

                  فالجواب : أن هذا من أعظم علمه ; فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده ، فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر ، وهو من لا ولد له ولا والد ، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه [ ص: 502 ] أجران ، كرأي الصديق ، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد .

                  وقد قال قيس بن عباد لعلي : أرأيت مسيرك هذا : ألعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم رأي رأيته ؟ فقال : بل رأي رأيته . رواه أبو داود وغيره [1] . .

                  فإذا كان مثل هذا الرأي الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل ، لا يمنع صاحبه أن يكون إماما ، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه .

                  وأما ما ذكره من قضائه في الجد [2] . بسبعين قضية ، فهذا كذب . وليس هو قول أبي بكر ، ولا نقل هذا عن [ أبي بكر ] [3] ، بل نقل هذا عن أبي [ ص: 503 ] بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ، ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ، ومع هذا هو باطل [4] ، عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة ، وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة ، بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم [5] . ، فعلم أن هذا كذب .

                  وأما مذهب أبي بكر في الجد ، فإنه جعله أبا ، وهو قول بضعة عشر من الصحابة ، وهو مذهب كثير من الفقهاء [ كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد ، كأبي حفص البرمكي ، ويذكر رواية عن أحمد ] [6] . كما تقدم [7] . ، وهو أظهر القولين في الدليل .

                  ولهذا يقال : لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا ، بخلاف غيره من الصحابة ; فإن قوله [8] في الجد أظهر القولين ، والذين ورثوا الإخوة مع الجد ، وهم علي ، وزيد ، وابن مسعود ، وعمر ، في إحدى الروايتين عنه ، تفرقوا في ذلك . وجمهور الفقهاء على قول زيد ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد ، فالفقهاء في الجد : إما على قول أبي بكر ، وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر . ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد ، وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر ; فإن زيدا قاضي عمر ، مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد .

                  [ ص: 504 ] وعمر كان متوقفا في الجد ، وقال : " ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهن لنا : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا " [9] . .

                  وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه ، كما قال تعالى : ( أخرج أبويكم من الجنة ) [ سورة الأعراف : 27 ] ، وقوله : ( ملة أبيكم إبراهيم ) [ سورة الحج : 78 ] ، وقد قال : ( يابني إسرائيل ) ، ( يا بني آدم ) ، في غير موضع .

                  وإذا كان ابن الابن ابنا ، كان أبو الأب أبا ، ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع ; فإنه يسقط ولد الأم كالأب ، ويقدم على جميع العصبات ، سوى البنين كالأب ، ويأخذ مع الولد السدس كالأب ، ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب .

                  وأما في العمريتين زوج وأبوين ، وزوجة [10] وأبوين ; فإن الأم تأخذ ثلث الباقي ، والباقي للأب [11] . ، ولو كان معها [12] . جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود ; لأن الأم أقرب من الجد ، [ ص: 505 ] وإنما الجدة نظير الجد ، والأم تأخذ مع الأب الثلث ، والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس ، وهذا مما يقوى به الجد ; ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى .

                  وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام ، فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة ; لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ; ولأن الإخوة لو كانوا لكونهم بني الأب [13] . يشاركون الجد ، لكان بنو الإخوة كذلك ، كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ، ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد ، كان آباؤهم الإخوة كذلك ، وعكسه البنون : لما كان الجد يفرض له مع البنين ، فرض له مع بني البنين [14] . .

                  وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد ، حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع ، خرج منه غصنان ، فأحد الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل ، وبنهر خرج منه نهر آخر ، ومنه جدولان ، فأحدهما إلى الآخر أقرب [15] . من الجدول إلى النهر الأول .

                  فمضمون هذه الحجة : أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد .

                  ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة ; فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ، ولكان العم أولى من جد الأب ، فإن نسبة الإخوة من الأب إلى [ ص: 506 ] الجد أبي الأب ، كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب ، فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام ، كان الجد الأدنى أولى من الإخوة .

                  وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة .

                  وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة ، لا دليل على شيء منها ، كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض ، فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال ، كما أن قوله دائما أصح الأقوال .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية