الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 514 ] ( فصل ) [1]

                  قال الرافضي [2] : " وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ، ولا حده حيث [3] قتل مالك بن نويرة ، وكان مسلما [4] ، وتزوج امرأته [ في ] [5] ليلة قتله وضاجعها ، وأشار عليه [6] عمر بقتله فلم يفعل " [7] .

                  والجواب : أن يقال أولا : إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة ، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي ; فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة ، وهو خليفة المسلمين ، وقد قتل مظلوما شهيدا بلا تأويل مسوغ لقتله ، وعلي لم يقتل قتلته ، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي ; [ ص: 515 ] فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان ، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى ، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان .

                  وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة ، وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي ; فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم .

                  وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ، هو من هذا الباب [8] .

                  وإذا قال القائل : علي كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان ; لأن شروط الاستيفاء لم توجد : إما لعدم العلم بأعيان القتلة ، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ، ونحو ذلك .

                  قيل : فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة ، وقتل قاتل الهرمزان ; لوجود الشبهة في ذلك . والحدود تدرأ بالشبهات .

                  [ ص: 516 ] وإذا قالوا : عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد [9] ، وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر .

                  قيل : وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان ، مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود ، أقام عليهم حجة سلموا لها [10] : إما لظهور الحق معه ، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد .

                  وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود ، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم ، وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين [11] ، فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ، ففي ذلك أولى .

                  وإن قالوا : عثمان كان مباح الدم .

                  قيل لهم : فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان ، بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم [12] ، [ ص: 517 ] ولم يثبت ذلك عندنا . وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم ، وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى .

                  ومن قال : إن عثمان كان مباح الدم ، لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ، ولا الحسين ; فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين ، وعثمان أبعد عن [13] موجبات القتل من علي والحسين ، وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين ; فإن عثمان لم يقتل مسلما ، ولا قاتل أحدا على ولايته [ ولم يطلب قتال أحد على ولايته ] [14] أصلا [15] ; فإن وجب أن يقال : من قتل خلقا من المسلمين على ولايته [ إنه ] [16] معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله ، فلأن يقال : عثمان معصوم الدم ، [ [17] ح ، ب : والولاية .

                  [ ص: 518 ] [18] ، وإن خالدا قتله بتأويل ، وهذا لا يبيح قتل خالد ، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله . وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أسامة ، أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة ، أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ [ يا أسامة ، [19] . أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ ] [20] فأنكر عليه قتله ، ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة .

                  وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية : قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) الآية [ سورة النساء : 94 ] نزلت في شأن مرداس ، رجل من غطفان ، بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا إلى قومه ، عليهم غالب الليثي ، ففر أصحابه ولم يفر . قال : إني مؤمن ، فصبحته الخيل ، فسلم عليهم ، فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأنزل الله هذه الآية ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك [21] .

                  وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ، ورفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " [22] ، ومع هذا فلم يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه كان متأولا .

                  فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله مع قتله [23] غير واحد من [ ص: 519 ] المسلمين من بني جذيمة للتأويل [24] ، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك بن نويرة بطريق الأولى والأحرى .

                  وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة ، وهو يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله ، فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله ؟ ! لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى .

                  وقوله : إن عمر أشار بقتله .

                  فيقال : غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد ، كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا ، وكان رأي عمر فيها قتله ، وليس عمر بأعلم من أبي بكر : لا عند السنة [25] ، ولا عند الشيعة ، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح ، فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا ؟

                  وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد .

                  وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله ، فهذا مما لم يعرف ثبوته ، ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم ، والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة : هل تجب للكافر ؟ على قولين . وكذلك تنازعوا : هل يجب على الذمية عدة وفاة ؟ على قولين مشهورين للمسلمين [26] بخلاف عدة الطلاق ; فإن تلك سببها [27] الوطء ، فلا بد من براءة الرحم . وأما عدة الوفاة فتجب [ ص: 520 ] بمجرد العقد ، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا ؟ فيه نزاع . وكذلك إن كان دخل بها ، وقد حاضت بعد الدخول حيضة .

                  هذا إذا كان الكافر أصليا ، وأما المرتد إذا قتل ، أو مات على ردته ، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة ، بل عدة فرقة بائنة ; لأن النكاح بطل بردة الزوج ، وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد ، وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ; ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة ، بل عدة فرقة بائنة ، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها ، كما ليس عليها عدة من الطلاق .

                  ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة ; لأنه رآه مرتدا ، فإذا كان [28] لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء [29] ، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم ، وفي الآخر بثلاث حيض ، وإن كان كافرا أصليا فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم . وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت . ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء ، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم .

                  وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم ، وهذا مما حرمه الله ورسوله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية