الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء ، وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه ، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، قال [1] : كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري : " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك [2] ، فإنه لا ينفع تكلم بحق [3] لا نفاذ [ ص: 72 ] له [4] ، آس [5] بين الناس في مجلسك ووجهك وقضائك [6] ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك [7] البينة على من ادعى [8] ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، ومن ادعى حقا غائبا فامدد له أمدا ينتهي إليه ، فإن جاء ببينة فأعطه حقه ، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية ، فإن ذلك هو أبلغ في العذر ، وأجلى للعمى [9] . ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم [10] فراجعت فيه رأيك [11] فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق [12] ، فإن الحق قديم ، وليس يبطله شيء [13] ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل [14] . والمسلمون عدول بعضهم [15] ؛ على بعض ، إلا مجربا عليه شهادة زور ، أو مجلودا في حد ، أو ظنينا في ولاء أو نسب [16] [ ص: 73 ] فإن الله تولى من العباد السرائر ، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان [17] . ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك وفيما ورد [18] عليك ، مما ليس في قرآن ولا سنة [19] ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، ثم اعرف الأمثال [20] ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق [21] ، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالخصوم ؛ فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب [ الله ] به الأجر ، ويحسن به الذخر [22] ، فمن خلصت نيته في الحق ، ولو على نفسه ، كفاه الله ما بينه وبين الناس [23] ، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله - عز وجل - [24] ؛ [25] فإن الله - عز وجل - لا [ ص: 74 ] يقبل من العبد إلا ما كان له خالصا ، فما ظنك بثواب [26] عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته " [27] .

                  وروى ابن بطة من حديث أبي يعلى الناجي ، حدثنا العتبي ، عن أبيه قال : خطب عمر بن الخطاب يوم عرفة يوم بويع له فقال [28] : " الحمد لله الذي ابتلاني بكم ، وابتلاكم بي ، وأبقاني فيكم من بعد صاحبي ، من كان منكم شاهدا باشرناه ، ومن كان غائبا ولينا أمره أهل القوة عندنا ، فإن أحسن زدناه ، وإن أساء لم نناظره ، أيتها الرعية إن للولاة عليكم حقا ، وإن لكم عليهم حقا ، واعلموا [29] أنه ليس حلم [30] أحب إلى الله وأعظم نفعا من حلم [31] إمام وعدله ، وليس جهل أبغض إلى الله - تعالى - من جهل وال وخرقه ، وأنه من يأخذ العافية ممن تحت يده يعطه الله العافية ممن هو فوقه " .

                  قلت : وهو معروف من حديث الأحنف عن عمر ، قال : الوالي إذا طلب العافية ممن هو دونه أعطاه الله العافية ممن هو فوقه .

                  وروي من حديث وكيع ، عن الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن [ ص: 75 ] يحيى بن جعدة [32] ، قال : قال عمر - رضي الله عنه - : " لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله ، لولا أن أسير في سبيل الله ، أو أضع جبهتي في التراب ساجدا ، أو أجالس قوما يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر " [33] .

                  وكلام عمر - رضي الله عنه - من أجمع الكلام [ وأكمله ، فإنه ملهم ] [34] محدث ، كل كلمة من كلامه تجمع علما كثيرا ، مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن [35] ؛ فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم ، وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة ، قال أحمد بن حنبل : أفضل ما تطوع به الإنسان الجهاد ، وقال الشافعي : أفضل ما تطوع به الصلاة . وقال أبو حنيفة ومالك : العلم .

                  والتحقيق أن كلا من الثلاثة لا بد له من الآخرين ، وقد يكون هذا أفضل في حال ، وهذا أفضل في حال ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يفعلون هذا وهذا وهذا ، كل في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة ، وعمر جمع الثلاث .

                  ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري ، عن عبيد الله بن [ ص: 76 ] عبد الله ، عن ابن عباس قال : قال لي عمر : إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف ، اللين في غير ضعف ، الجواد في [36] غير سرف ، الممسك في غير بخل ، قال : يقول ابن عباس : فوالله ما أعرفه غير عمر .

                  وعن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه كان إذا ذكر عمر قال : لله در عمر ، لقل ما سمعته يقول ، يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه إلا كان حقا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية