فصل [1] 
قال الرافضي [2]  : " وقال في خطبة له : من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال  ، فقالت له امرأة : كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال : ( وآتيتم إحداهن قنطارا   ) [ سورة النساء : 20 ] ؟ فقال : كل أحد [3] أفقه من  عمر  حتى المخدرات " . 
والجواب : أن هذه القصة دليل على كمال فضل  عمر  ودينه وتقواه ، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له ، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة  ، ويتواضع له ، وأنه معترف بفضل الواحد عليه ، ولو في أدنى مسألة ، وليس من شرط  [ ص: 77 ] الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور ، فقد قال الهدهد لسليمان   : ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين   ) [ سورة النمل : 22 ] وقد قال موسى  للخضر   : ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا   ) [ سورة الكهف : 66 ] والفرق بين موسى  والخضر  أعظم من الفرق بين  عمر  وبين أشباهه من الصحابة ، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر  قريبا من موسى  ، فضلا عن أن يكون مثله ، بل الأنبياء المتبعون لموسى  ، كهارون  ويوشع  وداود  وسليمان  وغيرهم ، أفضل من الخضر   . 
وما كان  عمر  قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل ، فإن الصداق فيه حق لله - تعالى ، ليس من جنس الثمن والأجرة ، فإن المال والمنفعة يستباح بالإباحة ، ويجوز بذله بلا عوض ، وأما البضع فلا يستباح بالإباحة ، ولا يجوز النكاح بغير صداق  ، لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق المسلمين ، واستحلال البضع بنكاح لا صداق فيه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم ، لكن يجوز عقده بدون التسمية ، ويجب مهر المثل ، فلو مات قبل أن يفرض لها ففيها قولان للصحابة والفقهاء ، أحدهما : لا يجب شيء ، وهو مذهب  علي  ومن اتبعه ،  كمالك   والشافعي  في أحد قوليه ، والثاني : يجب مهر المثل ، وهو مذهب  عبد الله بن مسعود  ، ومذهب  أبي حنيفة   وأحمد   والشافعي  في قوله الآخر . 
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بنت واشق  بمثل ذلك [4] ، فكان هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .  فعمر  لم يستقر قوله  [ ص: 78 ] على خلاف النص ، فكان حاله أكمل من حال من استقر قوله على خلاف النص [5] ، وإذا كان الصداق فيه حق لله أمكن أن يكون مقدرا بالشرع ، كالزكاة وفدية الأذى وغير ذلك ، ولهذا ذهب  أبو حنيفة   ومالك  إلى أن أقله مقدر [6] بنصاب السرقة ، وإذا جاز تقدير أقله جاز تقدير أكثره ، وإذا كان مقدرا اعتبر بالسنة ، فلم يتجاوز به ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسائه وبناته . 
وإذا قدر أن هذا لا يسوغ ، كانت [7] قد بذلت لمن لا يستحقها ، فلا يعطاها الباذل لحصول مقصوده ، ولا الآخذ لكونه [ لا ] [8] يستحقها ، فتوضع في بيت المال ، كما تقوله طائفة من الفقهاء : إن المتجر بمال غيره يتصدق بالربح ، وهو مذهب  أبي حنيفة   وأحمد  في إحدى الروايات ، وكما يقوله محققو الفقهاء فيمن باع سلاحا في الفتنة ، أو عصيرا أو عنبا للخمر : إنه يتصدق بالثمن . 
ففي الجملة  عمر  لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه ، وكيف لم ينفذه ؟ ! 
وقوله - تعالى - : ( وآتيتم إحداهن قنطارا   ) [ سورة النساء : 20 ] يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها ، بأن يقولوا : هذا قيل للمبالغة ، كما قالوا في  [ ص: 79 ] قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " التمس ولو خاتما من حديد  " [9] ، أنه قاله على سبيل المبالغة ، فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا ، جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا . 
وإذا كان في هذا منع للمرأة المستحقة ، فكذلك منع المفوضة المهر [10] الذي استحقته بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا سيما والمزوجة بلا تسمية لم تغال في الصداق ،  وعمر  مع هذا لم يصر على ذلك ، بل رجع إلى الحق . 
فعلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه ، وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها . 
 [ ص: 80 ] والله - تعالى - قد غفر لهذه الأمة الخطأ وإن لم يرجعوا عنه ، فكيف بمن رجع [11] عنه ؟ 
وقد ثبت في موضع غير هذا أن اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات [12] المتأخرين ، وأن صوابهم أكمل من صواب المتأخرين ، وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين ، فالذين قالوا من الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من المتأخرين بصحة نكاح المحلل ، من أكثر من عشرين وجها ، قد ذكرناها في مصنف مفرد ، والذين قالوا من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطأ من جوز الحيل الربوية من المتأخرين ، وأن الذين أنكروا ما قاله الصحابة ،  عمر  وغيره ، في مسألة المفقود من أن زوجها إذا أتى خير بين امرأته ومهرها - قولهم ضعيف ، وقول الصحابة هو الصواب الموافق لأصول الشرع ، والذين عدوا هذا خلاف القياس ، وقالوا : لا ينفذ حكم الحاكم إذا حكم به ، قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم [13] ؛ فإن هذا مبني على وقف العقود عند الحاجة ؛ وهو أصل شريف من أصول الشرع . 
وكذلك ما فعله  عمر  من جعل أرض العنوة فيئا هو فيه على الصواب ، دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين ، وأن الذي أشار به  علي بن أبي طالب  في قتال أهل القبلة كان  علي   - رضي الله عنه - فيه على الصواب ، دون من أنكره عليه من الخوارج  وغيرهم . 
 [ ص: 81 ] وما أفتى به  ابن عباس  وغيره من الصحابة في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والخلع ، قولهم فيها هو الصواب ، دون قول من خالفهم من المتأخرين . 
وبالجملة فهذا باب يطول وصفه ، فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها ، ولهذا أحسن  الشافعي   - رحمه الله - في قوله : " هم فوقنا في كل علم [ وفقه ] [14] ودين وهدى ، وفي كل سبب ينال به علم وهدى ، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا  " أو كلاما هذا معناه . 
وقال  أحمد بن حنبل   : " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "  . 
وما أحسن قول  عبد الله بن مسعود   - رضي الله عنه - حيث قال : " أيها الناس من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات [15] ، [ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ] [16] أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة : أبرها قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم  " . 
وقال  حذيفة   - رضي الله عنه - : " يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم ، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا  " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					