الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " وقال في خطبة له : من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال ، فقالت له امرأة : كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) [ سورة النساء : 20 ] ؟ فقال : كل أحد [3] أفقه من عمر حتى المخدرات " .

                  والجواب : أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له ، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ، ويتواضع له ، وأنه معترف بفضل الواحد عليه ، ولو في أدنى مسألة ، وليس من شرط [ ص: 77 ] الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور ، فقد قال الهدهد لسليمان : ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) [ سورة النمل : 22 ] وقد قال موسى للخضر : ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ) [ سورة الكهف : 66 ] والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة ، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبا من موسى ، فضلا عن أن يكون مثله ، بل الأنبياء المتبعون لموسى ، كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم ، أفضل من الخضر .

                  وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل ، فإن الصداق فيه حق لله - تعالى ، ليس من جنس الثمن والأجرة ، فإن المال والمنفعة يستباح بالإباحة ، ويجوز بذله بلا عوض ، وأما البضع فلا يستباح بالإباحة ، ولا يجوز النكاح بغير صداق ، لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق المسلمين ، واستحلال البضع بنكاح لا صداق فيه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم ، لكن يجوز عقده بدون التسمية ، ويجب مهر المثل ، فلو مات قبل أن يفرض لها ففيها قولان للصحابة والفقهاء ، أحدهما : لا يجب شيء ، وهو مذهب علي ومن اتبعه ، كمالك والشافعي في أحد قوليه ، والثاني : يجب مهر المثل ، وهو مذهب عبد الله بن مسعود ، ومذهب أبي حنيفة وأحمد والشافعي في قوله الآخر .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بروع بنت واشق بمثل ذلك [4] ، فكان هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فعمر لم يستقر قوله [ ص: 78 ] على خلاف النص ، فكان حاله أكمل من حال من استقر قوله على خلاف النص [5] ، وإذا كان الصداق فيه حق لله أمكن أن يكون مقدرا بالشرع ، كالزكاة وفدية الأذى وغير ذلك ، ولهذا ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن أقله مقدر [6] بنصاب السرقة ، وإذا جاز تقدير أقله جاز تقدير أكثره ، وإذا كان مقدرا اعتبر بالسنة ، فلم يتجاوز به ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسائه وبناته .

                  وإذا قدر أن هذا لا يسوغ ، كانت [7] قد بذلت لمن لا يستحقها ، فلا يعطاها الباذل لحصول مقصوده ، ولا الآخذ لكونه [ لا ] [8] يستحقها ، فتوضع في بيت المال ، كما تقوله طائفة من الفقهاء : إن المتجر بمال غيره يتصدق بالربح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات ، وكما يقوله محققو الفقهاء فيمن باع سلاحا في الفتنة ، أو عصيرا أو عنبا للخمر : إنه يتصدق بالثمن .

                  ففي الجملة عمر لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه ، وكيف لم ينفذه ؟ !

                  وقوله - تعالى - : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) [ سورة النساء : 20 ] يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها ، بأن يقولوا : هذا قيل للمبالغة ، كما قالوا في [ ص: 79 ] قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " التمس ولو خاتما من حديد " [9] ، أنه قاله على سبيل المبالغة ، فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا ، جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا .

                  وإذا كان في هذا منع للمرأة المستحقة ، فكذلك منع المفوضة المهر [10] الذي استحقته بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا سيما والمزوجة بلا تسمية لم تغال في الصداق ، وعمر مع هذا لم يصر على ذلك ، بل رجع إلى الحق .

                  فعلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه ، وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها .

                  [ ص: 80 ] والله - تعالى - قد غفر لهذه الأمة الخطأ وإن لم يرجعوا عنه ، فكيف بمن رجع [11] عنه ؟

                  وقد ثبت في موضع غير هذا أن اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات [12] المتأخرين ، وأن صوابهم أكمل من صواب المتأخرين ، وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين ، فالذين قالوا من الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من المتأخرين بصحة نكاح المحلل ، من أكثر من عشرين وجها ، قد ذكرناها في مصنف مفرد ، والذين قالوا من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطأ من جوز الحيل الربوية من المتأخرين ، وأن الذين أنكروا ما قاله الصحابة ، عمر وغيره ، في مسألة المفقود من أن زوجها إذا أتى خير بين امرأته ومهرها - قولهم ضعيف ، وقول الصحابة هو الصواب الموافق لأصول الشرع ، والذين عدوا هذا خلاف القياس ، وقالوا : لا ينفذ حكم الحاكم إذا حكم به ، قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم [13] ؛ فإن هذا مبني على وقف العقود عند الحاجة ؛ وهو أصل شريف من أصول الشرع .

                  وكذلك ما فعله عمر من جعل أرض العنوة فيئا هو فيه على الصواب ، دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين ، وأن الذي أشار به علي بن أبي طالب في قتال أهل القبلة كان علي - رضي الله عنه - فيه على الصواب ، دون من أنكره عليه من الخوارج وغيرهم .

                  [ ص: 81 ] وما أفتى به ابن عباس وغيره من الصحابة في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والخلع ، قولهم فيها هو الصواب ، دون قول من خالفهم من المتأخرين .

                  وبالجملة فهذا باب يطول وصفه ، فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها ، ولهذا أحسن الشافعي - رحمه الله - في قوله : " هم فوقنا في كل علم [ وفقه ] [14] ودين وهدى ، وفي كل سبب ينال به علم وهدى ، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا " أو كلاما هذا معناه .

                  وقال أحمد بن حنبل : " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

                  وما أحسن قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال : " أيها الناس من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات [15] ، [ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ] [16] أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة : أبرها قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " .

                  وقال حذيفة - رضي الله عنه - : " يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم ، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا " .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية