الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " وأرسل إلى حامل يستدعيها [3] فأسقطت خوفا . فقال له الصحابة : نراك مؤدبا ولا شيء [4] عليك . ثم سأل [5] أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته " .

                  والجواب : أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء ، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة - رضي الله عنهم - في الحوادث ، يشاور عثمان [ ص: 88 ] وعليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم ، حتى كان يشاور ابن عباس ، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه ، ولهذا [6] كان من أسد [7] الناس رأيا ، وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأي هذا .

                  وقد أتي بامرأة قد أقرت بالزنا ، فاتفقوا على رجمها ، وعثمان ساكت ، فقال : ما لك لا تتكلم ؟ فقال : أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم ، فرجع [8] فأسقط الحد عنها لما ذكر له عثمان ، ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به ، كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحا ، مثل الأكل والشرب والتزوج والتسري .

                  والاستهلال رفع الصوت ، ومنه استهلال الصبي ، وهو رفعه صوته عند الولادة ، وإذا كانت لا تعلمه قبيحا كانت جاهلة بتحريمه ، والحد لا يجب إلا على من بلغه [9] التحريم ، فإن الله - تعالى - يقول : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ سورة الإسراء : 15 ] وقال - تعالى - : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] . ولهذا لا يجوز قتال الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة حتى يدعوا إلى الإسلام .

                  ولهذا من أتى شيئا من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام ، أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ، ولهذا لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل من أصحابه حتى يتبين له الخيط [ ص: 89 ] الأبيض من الخيط الأسود ، لأنهم أخطأوا في التأويل .

                  ولم يعاقب أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله ، لأنه ظن جواز قتله ، لما اعتقد أنه قالها تعوذا .

                  وكذلك السرية التي قتلت الرجل الذي قال : إنه مسلم ، وأخذت ماله ، لم يعاقبها لأنها كانت متأولة ،

                  وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا : صبأنا ، لم يعاقبه لتأويله .

                  وكذلك الصديق لم يعاقب خالدا على قتل مالك بن نويرة لأنه كان متأولا .

                  وكذلك الصحابة لما قال هذا لهذا : أنت منافق ، لم يعاقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان متأولا [10] .

                  ولهذا قال الفقهاء : الشبهة التي يسقط بها الحد شبهة اعتقاد ، أو شبهة ملك ؛ فمن تزوج نكاحا اعتقد أنه جائز ووطئ فيه لم يحد ، وإن كان حراما في الباطن ، وأما إذا علم التحريم ولم يعلم العقوبة فإنه يحد .

                  كما حد النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك إذ كان قد علم تحريم الزنا ، ولكنه لم يكن يعلم أن الزاني المحصن يرجم ، فرجمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بتحريم الفعل ، وإن لم يعلم أنه يعاقب [ ص: 90 ] بالرجم [11] .

                  والمقصود هنا أن عمر - رضي الله عنه - كان يشاورهم ، وأنه من ذكر ما هو حق قبله ، وذلك من وجهين : أحدهما : أن يتبين في القصة المعينة مناط الحكم الذي يعرفونه ، كقول عثمان : إنها جاهلة بالتحريم ؛ فإن عثمان لم يفدهم معرفة الحكم العام ، بل أفادهم إن هذا المعين هو من أهله ، وكذلك قول علي إن هذه مجنونة ، قد يكون من هذا ، فأخبره بجنونها أو بحملها أو نحو ذلك .

                  والثاني : أن يتبين نصا [12] أو معنى نص يدل على الحكم العام ، كتنبيه المرأة له على قوله - تعالى - : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) [ سورة النساء : 20 ] ، وكإلحاق عبد الرحمن حد الشارب بحد القاذف ونحو ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية