فصل [1]
قال الرافضي [2] : " وأرسل إلى حامل يستدعيها [3] فأسقطت خوفا . فقال له الصحابة : نراك مؤدبا ولا شيء [4] عليك . ثم سأل [5] أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته " .
والجواب : أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء ، يشاور الصحابة - رضي الله عنهم - في الحوادث ، عمر بن الخطاب يشاور وكان [ ص: 88 ] عثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وغيرهم ، حتى كان يشاور وزيد بن ثابت ، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه ، ولهذا ابن عباس [6] كان من أسد [7] الناس رأيا ، وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأي هذا .
وقد أتي بامرأة قد أقرت بالزنا ، فاتفقوا على رجمها ، ساكت ، فقال : ما لك لا تتكلم ؟ فقال : أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم ، فرجع وعثمان [8] فأسقط الحد عنها لما ذكر له ، ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به ، كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحا ، مثل الأكل والشرب والتزوج والتسري . عثمان
والاستهلال رفع الصوت ، ومنه استهلال الصبي ، وهو رفعه صوته عند الولادة ، وإذا كانت لا تعلمه قبيحا كانت جاهلة بتحريمه ، والحد لا يجب إلا على من بلغه [9] التحريم ، فإن الله - تعالى - يقول : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ سورة الإسراء : 15 ] وقال - تعالى - : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] . ولهذا لا يجوز قتال الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة حتى يدعوا إلى الإسلام .
ولهذا من أتى شيئا من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام ، أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ، ولهذا لم يعاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكل من أصحابه حتى يتبين له الخيط [ ص: 89 ] الأبيض من الخيط الأسود ، لأنهم أخطأوا في التأويل .
ولم يعاقب لما قتل الرجل الذي قال : لا إله إلا الله ، لأنه ظن جواز قتله ، لما اعتقد أنه قالها تعوذا . أسامة بن زيد
وكذلك السرية التي قتلت الرجل الذي قال : إنه مسلم ، وأخذت ماله ، لم يعاقبها لأنها كانت متأولة ،
وكذلك لما قتل خالد بن الوليد بني جذيمة لما قالوا : صبأنا ، لم يعاقبه لتأويله .
وكذلك لم يعاقب الصديق على قتل خالدا مالك بن نويرة لأنه كان متأولا .
وكذلك الصحابة لما قال هذا لهذا : أنت منافق ، لم يعاقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان متأولا [10] .
ولهذا قال الفقهاء : الشبهة التي يسقط بها الحد شبهة اعتقاد ، أو شبهة ملك ؛ فمن تزوج نكاحا اعتقد أنه جائز ووطئ فيه لم يحد ، وإن كان حراما في الباطن ، وأما إذا علم التحريم ولم يعلم العقوبة فإنه يحد .
كما حد النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك إذ كان قد علم تحريم الزنا ، ولكنه لم يكن يعلم أن الزاني المحصن يرجم ، فرجمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بتحريم الفعل ، وإن لم يعلم أنه يعاقب [ ص: 90 ] بالرجم [11] .
والمقصود هنا أن - رضي الله عنه - كان يشاورهم ، وأنه من ذكر ما هو حق قبله ، وذلك من وجهين : أحدهما : أن يتبين في القصة المعينة مناط الحكم الذي يعرفونه ، كقول عمر : إنها جاهلة بالتحريم ؛ فإن عثمان لم يفدهم معرفة الحكم العام ، بل أفادهم إن هذا المعين هو من أهله ، وكذلك قول عثمان إن هذه مجنونة ، قد يكون من هذا ، فأخبره بجنونها أو بحملها أو نحو ذلك . علي
والثاني : أن يتبين نصا [12] أو معنى نص يدل على الحكم العام ، كتنبيه المرأة له على قوله - تعالى - : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) [ سورة النساء : 20 ] ، وكإلحاق عبد الرحمن حد الشارب بحد القاذف ونحو ذلك .