قال الرازي :
( البرهان الرابع : أن إما لأنه افتقار الأثر إلى المؤثر [1] موجود في الحال ، أو لأنه كان معدوما ، أو لأنه سبقه عدم [2] ، ومحال أن يكون العدم السابق هو المقتضي ، فإن العدم نفي محض ، فلا حاجة له إلى المؤثر أصلا . ومحال أن يكون هو كونه مسبوقا بالعدم ; لأن [ كون ] [3] الوجود مسبوقا بالعدم كيفية تعرض للوجود بعد حصوله على طريق الوجوب ; لأن وقوعه على [4] نعت المسبوقية بالعدم [5] كيفية لازمة بعد وقوعه ، فإنه يستحيل أن يقع إلا [6] كذلك ، والواجب غني عن المؤثر ، فإذن المفتقر هو الوجود ، والوجود عارض للماهية ، فلا يعتبر في افتقاره إلى الفاعل تقدم العدم ) [7] .
[ ص: 252 ] . والجواب أن يقال : قوله : افتقاره إلى المؤثر إما أن يكون لكذا أو لكذا . إما أن يريد به إثبات السبب الذي لأجله صار مفتقرا إلى المؤثر ، وإما أن يريد به إثبات دليل يدل على كونه مفتقرا إلى المؤثر ، فإن ما يقرن بحرف اللام على جهة التعليل قد يكون علة للوجود في الوجود الخارجي ، وقد يكون علة للعلم بذلك وثبوته في الذهن ، وهذا يسمى دليلا وبرهانا وقياس الدلالة وبرهان الدلالة ، والأول إذا استدل به سمي قياس العلة ، وبرهان العلة ، وبرهان ( لم ) لأنه يفيد علة الأثر في الخارج ، وفي الذهن [8] .
فقول القائل : الافتقار إلى المؤثر : إما أن يكون لأجل الحدوث أو الإمكان ، أو لمجموعهما ، وما يذكره طائفة من المتأخرين من الأقوال الثلاثة في ذلك ، فحقيقته أن يقال : أتريدون البحث عن [ نفس ] [9] العلة الموجبة في نفس الأمر لهذا الافتقار أم البحث عن الدليل الدال على هذا الافتقار ؟ .
فإن أردتم الأول قيل لكم : هذا فرع ثبوت كون افتقار المفعول إلى الفاعل إنما هو لعلة أخرى ، ولم تثبتوا ذلك ، بل لقائل أن يقول : كل ما سوى الله مفتقر إليه لذاته ، وحقيقته لا لعلة أوجبت كون ذاته وحقيقته مفتقرة إلى الله ، ومن المعلوم أنه لا يجب في كل حكم وصفة توصف بها الذوات [10] أن تكون ثابتة لعلة [11] ، فإن هذا يستلزم التسلسل الممتنع ، [ ص: 253 ] فإن [12] افتقار كل ما سوى الله إلى الله هو حكم وصفة ثبت لما سواه ، فكل ما سواه سواء سمي محدثا أو ممكنا أو مخلوقا أو غير ذلك هو مفتقر محتاج إليه لا يمكن استغناؤه عنه بوجه من الوجوه ، ولا في حال من الأحوال ، بل كما أن غنى الرب من لوازم ذاته ، ففقر الممكنات من لوازم ذاتها ، وهي لا حقيقة لها إلا إذا كانت موجودة ، فإن المعدوم ليس بشيء ، [13] موجود سوى الله ، فإنه مفتقر إليه دائما حال حدوثه وحال بقائه . فكل [ ما هو ]
وإن أريد بعلة الافتقار إلى الفاعل ما يستدل به على ذلك ، فيقال : كون الشيء حادثا بعد أن لم يكن دليل على أنه مفتقر إلى محدث يحدثه [14] ، وكونه ممكنا لا يترجح [15] وجوده على عدمه إلا بمرجح تام ، دليل على أنه مفتقر إلى واجب يبدعه ، وكونه ممكنا محدثا دليلان ; لأن كلا منهما [16] دليل على افتقاره ، وهذه الصفات وغير ذلك من صفاته : مثل كونه محدثا [17] ، وكونه ، فقيرا ، [ وكونه مخلوقا ] [18] ، ونحو ذلك تدل على احتياجه إلى خالقه ، فأدلة احتياجه إلى خالقه [19] كثيرة ، وهو محتاج إليه لذاته لا لسبب آخر .
[ ص: 254 ] . وحينئذ فيمكن أن يقال : وجوده دليل على افتقاره إلى خالقه [20] ، وعدمه السابق دليل على افتقاره إلى الخالق [21] ، وكونه موجودا بعدم العدم دليل على افتقاره إلى الخالق ، فلا منافاة بين الأقسام ، وعلى هذا ، فلا يصح قوله : ( العدم نفي محض ، فلا حاجة له إلى المؤثر أصلا ) وذلك أنا [22] [ إذا ] [23] جعلنا عدمه دليلا على أنه [24] لا يوجد بعد العدم إلا بفاعل لم يجعل عدمه هو المحتاج إلى المؤثر ، بل نظار المسلمين يقولون : إن الممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا في وجوده ، وأما عدمه المستمر فلا يفتقر فيه إلى المؤثر .
وأما هؤلاء الفلاسفة [25] ، [ ومن تبعه ] كابن سينا كالرازي [26] ، فيقولون : إنه لا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بمرجح ، فيقولون : لا يترجح عدمه على وجوده إلا بمرجح ، كما يقولون : لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ، ثم قالوا : مرجح العدم عدم المرجح ، فعلة كونه معدوما عدم علة كونه موجودا .
وأما نظار المسلمين ، فينكرون هذا غاية الإنكار ، كما ذكر ذلك [ ص: 255 ] القاضي أبو بكر [27] ، وغيرهما من نظار المسلمين ، وهذا هو الصواب . والقاضي أبو يعلى
وقول أولئك : علة عدمه عدم علته ، فيقال لهم : أتريدون أن عدم علته مستلزم لعدمه ، ودليل على عدمه أم تريدون أن عدم علته هو الذي جعله معدوما في الخارج ؟ .
أما الأول فصحيح ، ولكن ليس هو قولكم .
وأما الثاني فباطل ، فإن عدمه المستمر لا يحتاج إلى علة إلا كما يحتاج عدم العلة إلى علة ، ومعلوم أنه إذا قيل : عدم لعدم علته قيل : وذلك العدم أيضا لعدم علته ، وهذا مع أنه يقتضي التسلسل في العلل ، والمعلولات ، وهو باطل بصريح العقل ، فبطلانه ظاهر ، ولكن المقصود بيان بعض تناقض هؤلاء الملاحدة المتفلسفة المخالفين لصريح المعقول ، وصحيح المنقول .
وكذلك قوله : ( لأن كونه مسبوقا بالعدم كيفية تعرض للوجود بعد حصوله ) . وهي لازمة [ له ] لا علة له [28] .
فيقال : هذا ليس بصفة ثبوتية له ، بل هي صفة إضافية معناها أنه كان بعد أن لم يكن ، ثم لو قدر أنها صفة لازمة له ، فالمراد أنها دليل على افتقاره إلى المؤثر ، وأيضا فأنت قدرت هذا علة افتقاره لم تقدره معلول افتقاره ، فكونه غنيا [29] لا يمنع كونه علة ، وإنما يمنع كونه معلولا .
[ ص: 256 ] وإن [30] قال : هذه متأخرة عن افتقاره ، والمتأخر لا يكون علة للمتقدم .
قيل : هذا ذكرته في مواضع أخر لا هاهنا ، وجوابه أنه دليل على الافتقار لا موجب له . والدليل متأخر عن المدلول عليه باتفاق العقلاء .
فإن قيل : إن كان الحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر لم يلزم [31] أن يكون كل مفتقر إلى المؤثر حادثا ; لأن الدليل يجب طرده ، ولا يجب عكسه .
قيل : نعم ، انتفاء الدلالة من هذا الوجه لا ينفي الدلالة من وجوه أخر مثل أن يقال : شرط افتقاره إلى الفاعل كونه محدثا ، والشرط يقارن المشروط ، وهذا أيضا مما يبين به [32] الاقتران فيقال : علة الافتقار [ بمعنى شرط افتقاره ] [33] كونه محدثا أو ممكنا أو مجموعهما ، والجميع حق ، ومثل أن يقال : إذا أريد بالعلة المقتضي لافتقاره إلى الفاعل هو حدوثه أي كونه مسبوقا بالعدم ، فإن كل ما كان مسبوقا بالعدم [34] هو ثابت حال افتقاره إلى الفاعل ، فإن افتقاره إلى الفاعل هو حال حدوثه ، وتلك الحال هو فيها مسبوق بالعدم ، فإن كل ما كان مسبوقا بالعدم كان كائنا بعد أن لم يكن ، وهذا المعنى يوجب افتقاره إلى الفاعل .