الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قال الرازي :

                  ( البرهان الرابع : أن افتقار الأثر إلى المؤثر إما لأنه [1] موجود في الحال ، أو لأنه كان معدوما ، أو لأنه سبقه عدم [2] ، ومحال أن يكون العدم السابق هو المقتضي ، فإن العدم نفي محض ، فلا حاجة له إلى المؤثر أصلا . ومحال أن يكون هو كونه مسبوقا بالعدم ; لأن [ كون ] [3] الوجود مسبوقا بالعدم كيفية تعرض للوجود بعد حصوله على طريق الوجوب ; لأن وقوعه على [4] نعت المسبوقية بالعدم [5] كيفية لازمة بعد وقوعه ، فإنه يستحيل أن يقع إلا [6] كذلك ، والواجب غني عن المؤثر ، فإذن المفتقر هو الوجود ، والوجود عارض للماهية ، فلا يعتبر في افتقاره إلى الفاعل تقدم العدم ) [7] .

                  [ ص: 252 ] . والجواب أن يقال : قوله : افتقاره إلى المؤثر إما أن يكون لكذا أو لكذا . إما أن يريد به إثبات السبب الذي لأجله صار مفتقرا إلى المؤثر ، وإما أن يريد به إثبات دليل يدل على كونه مفتقرا إلى المؤثر ، فإن ما يقرن بحرف اللام على جهة التعليل قد يكون علة للوجود في الوجود الخارجي ، وقد يكون علة للعلم بذلك وثبوته في الذهن ، وهذا يسمى دليلا وبرهانا وقياس الدلالة وبرهان الدلالة ، والأول إذا استدل به سمي قياس العلة ، وبرهان العلة ، وبرهان ( لم ) لأنه يفيد علة الأثر في الخارج ، وفي الذهن [8] .

                  فقول القائل : الافتقار إلى المؤثر : إما أن يكون لأجل الحدوث أو الإمكان ، أو لمجموعهما ، وما يذكره طائفة من المتأخرين من الأقوال الثلاثة في ذلك ، فحقيقته أن يقال : أتريدون البحث عن [ نفس ] [9] العلة الموجبة في نفس الأمر لهذا الافتقار أم البحث عن الدليل الدال على هذا الافتقار ؟ .

                  فإن أردتم الأول قيل لكم : هذا فرع ثبوت كون افتقار المفعول إلى الفاعل إنما هو لعلة أخرى ، ولم تثبتوا ذلك ، بل لقائل أن يقول : كل ما سوى الله مفتقر إليه لذاته ، وحقيقته لا لعلة أوجبت كون ذاته وحقيقته مفتقرة إلى الله ، ومن المعلوم أنه لا يجب في كل حكم وصفة توصف بها الذوات [10] أن تكون ثابتة لعلة [11] ، فإن هذا يستلزم التسلسل الممتنع ، [ ص: 253 ] فإن [12] افتقار كل ما سوى الله إلى الله هو حكم وصفة ثبت لما سواه ، فكل ما سواه سواء سمي محدثا أو ممكنا أو مخلوقا أو غير ذلك هو مفتقر محتاج إليه لا يمكن استغناؤه عنه بوجه من الوجوه ، ولا في حال من الأحوال ، بل كما أن غنى الرب من لوازم ذاته ، ففقر الممكنات من لوازم ذاتها ، وهي لا حقيقة لها إلا إذا كانت موجودة ، فإن المعدوم ليس بشيء ، فكل [ ما هو ] [13] موجود سوى الله ، فإنه مفتقر إليه دائما حال حدوثه وحال بقائه .

                  وإن أريد بعلة الافتقار إلى الفاعل ما يستدل به على ذلك ، فيقال : كون الشيء حادثا بعد أن لم يكن دليل على أنه مفتقر إلى محدث يحدثه [14] ، وكونه ممكنا لا يترجح [15] وجوده على عدمه إلا بمرجح تام ، دليل على أنه مفتقر إلى واجب يبدعه ، وكونه ممكنا محدثا دليلان ; لأن كلا منهما [16] دليل على افتقاره ، وهذه الصفات وغير ذلك من صفاته : مثل كونه محدثا [17] ، وكونه ، فقيرا ، [ وكونه مخلوقا ] [18] ، ونحو ذلك تدل على احتياجه إلى خالقه ، فأدلة احتياجه إلى خالقه [19] كثيرة ، وهو محتاج إليه لذاته لا لسبب آخر .

                  [ ص: 254 ] . وحينئذ فيمكن أن يقال : وجوده دليل على افتقاره إلى خالقه [20] ، وعدمه السابق دليل على افتقاره إلى الخالق [21] ، وكونه موجودا بعدم العدم دليل على افتقاره إلى الخالق ، فلا منافاة بين الأقسام ، وعلى هذا ، فلا يصح قوله : ( العدم نفي محض ، فلا حاجة له إلى المؤثر أصلا ) وذلك أنا [22] [ إذا ] [23] جعلنا عدمه دليلا على أنه [24] لا يوجد بعد العدم إلا بفاعل لم يجعل عدمه هو المحتاج إلى المؤثر ، بل نظار المسلمين يقولون : إن الممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا في وجوده ، وأما عدمه المستمر فلا يفتقر فيه إلى المؤثر .

                  وأما هؤلاء الفلاسفة [25] كابن سينا ، [ ومن تبعه ] كالرازي [26] ، فيقولون : إنه لا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بمرجح ، فيقولون : لا يترجح عدمه على وجوده إلا بمرجح ، كما يقولون : لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ، ثم قالوا : مرجح العدم عدم المرجح ، فعلة كونه معدوما عدم علة كونه موجودا .

                  وأما نظار المسلمين ، فينكرون هذا غاية الإنكار ، كما ذكر ذلك [ ص: 255 ] القاضي أبو بكر [27] ، والقاضي أبو يعلى وغيرهما من نظار المسلمين ، وهذا هو الصواب .

                  وقول أولئك : علة عدمه عدم علته ، فيقال لهم : أتريدون أن عدم علته مستلزم لعدمه ، ودليل على عدمه أم تريدون أن عدم علته هو الذي جعله معدوما في الخارج ؟ .

                  أما الأول فصحيح ، ولكن ليس هو قولكم .

                  وأما الثاني فباطل ، فإن عدمه المستمر لا يحتاج إلى علة إلا كما يحتاج عدم العلة إلى علة ، ومعلوم أنه إذا قيل : عدم لعدم علته قيل : وذلك العدم أيضا لعدم علته ، وهذا مع أنه يقتضي التسلسل في العلل ، والمعلولات ، وهو باطل بصريح العقل ، فبطلانه ظاهر ، ولكن المقصود بيان بعض تناقض هؤلاء الملاحدة المتفلسفة المخالفين لصريح المعقول ، وصحيح المنقول .

                  وكذلك قوله : ( لأن كونه مسبوقا بالعدم كيفية تعرض للوجود بعد حصوله ) . وهي لازمة [ له ] لا علة له [28] .

                  فيقال : هذا ليس بصفة ثبوتية له ، بل هي صفة إضافية معناها أنه كان بعد أن لم يكن ، ثم لو قدر أنها صفة لازمة له ، فالمراد أنها دليل على افتقاره إلى المؤثر ، وأيضا فأنت قدرت هذا علة افتقاره لم تقدره معلول افتقاره ، فكونه غنيا [29] لا يمنع كونه علة ، وإنما يمنع كونه معلولا .

                  [ ص: 256 ] وإن [30] قال : هذه متأخرة عن افتقاره ، والمتأخر لا يكون علة للمتقدم .

                  قيل : هذا ذكرته في مواضع أخر لا هاهنا ، وجوابه أنه دليل على الافتقار لا موجب له . والدليل متأخر عن المدلول عليه باتفاق العقلاء .

                  فإن قيل : إن كان الحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر لم يلزم [31] أن يكون كل مفتقر إلى المؤثر حادثا ; لأن الدليل يجب طرده ، ولا يجب عكسه .

                  قيل : نعم ، انتفاء الدلالة من هذا الوجه لا ينفي الدلالة من وجوه أخر مثل أن يقال : شرط افتقاره إلى الفاعل كونه محدثا ، والشرط يقارن المشروط ، وهذا أيضا مما يبين به [32] الاقتران فيقال : علة الافتقار [ بمعنى شرط افتقاره ] [33] كونه محدثا أو ممكنا أو مجموعهما ، والجميع حق ، ومثل أن يقال : إذا أريد بالعلة المقتضي لافتقاره إلى الفاعل هو حدوثه أي كونه مسبوقا بالعدم ، فإن كل ما كان مسبوقا بالعدم [34] هو ثابت حال افتقاره إلى الفاعل ، فإن افتقاره إلى الفاعل هو حال حدوثه ، وتلك الحال هو فيها مسبوق بالعدم ، فإن كل ما كان مسبوقا بالعدم كان كائنا بعد أن لم يكن ، وهذا المعنى يوجب افتقاره إلى الفاعل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية