الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " وقال بالرأي والحدس والظن " .

                  والجواب : أن القول بالرأي لم يختص به عمر - رضي الله عنه ، بل علي كان من أقولهم بالرأي ، وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقولون بالرأي ، وكان رأي علي في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم .

                  كما في سنن أبي داود [3] وغيره عن الحسن ، عن قيس بن عباد [4] قال : قلت لعلي : أخبرنا عن مسيرك هذا ، أعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم رأي رأيته ؟ قال : ما عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي شيئا [5] ولكنه رأي رأيته ، وهذا أمر ثابت ، ولهذا لم يرو علي [ ص: 112 ] - رضي الله عنه - في قتال الجمل وصفين شيئا ، كما رواه في قتال الخوارج ، بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين ، وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا إلا القاعدون ؛ فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة .

                  وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل [6] الناكثين والقاسطين والمارقين فهو حديث موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم - [7] .

                  ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به [8] ، وإن كان مذموما فلا رأي أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من [ ص: 113 ] المسلمين ، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين ، لا في دينهم ولا في دنياهم ، بل نقص الخير عما كان ، وزاد الشر على ما كان .

                  فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب [9] به ، فرأي عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب [10] . مع أن عليا شركهم في هذا الرأي ، وامتاز برأيه في الدماء .

                  وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة ، وكان هذا الرأي أصلح [11] من رأي القتال بالدلائل الكثيرة .

                  ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي ، وقد قال : اجتمع رأيي ورأي عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد ، والآن فقد رأيت أن يبعن ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني : رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة .

                  وفي صحيح البخاري عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي قال : " اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف ، حتى يكون للناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي " ، قال : وكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي كذب [12] .

                  وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت من قول علي وابن مسعود ، فبلغت شيئا كثيرا ، وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه ، كالمتوفى عنها الحامل ، فإن مذهب علي - رضي الله عنه - أنها [ ص: 114 ] تعتد أبعد الأجلين ، وبذلك أفتى أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم ، فلما جاءته سبيعة الأسلمية وذكرت ذلك له ، قال : " كذب أبو السنابل ، بل حللت فانكحي من شئت " [13] . وكان زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوداع .

                  فإن كان القول بالرأي ذنبا ، فذنب غير عمر - كعلي وغيره - أعظم ، فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي ، هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه ، وإن كان منه ما هو صواب ومنه ما هو خطأ ، فعمر - رضي الله عنه - أسعد بالصواب من غيره ، فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره ، والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه ، وإن كان الرأي كله صوابا ، فالصواب [14] الذي مصلحته أعظم هو خير وأفضل من الصواب الذي مصلحته دون ذلك ، وآراء عمر - رضي الله عنه - كانت مصالحها أعظم للمسلمين .

                  فعلى كل تقدير عمر فوق القائلين بالرأي من الصحابة فيما يحمد ، وهو أخف منهم فيما يذم ، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر " [15] .

                  ومعلوم أن رأي المحدث الملهم أفضل من رأي من ليس كذلك ، وليس فوقه إلا النص الذي هو حال الصديق المتلقي من الرسول ، ونحن نسلم أن الصديق أفضل من عمر ، لكن عمر أفضل من سائرهم .

                  [ ص: 115 ] وفي المسند وغيره أن الله - تعالى - : " ضرب الحق على لسان عمر وقلبه " [16] . وقال عبد الله بن عمر : ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول . [17]

                  فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم ، ولهذا كانت آثار رأيه محمودة ، فيها صلاح [18] الدين والدنيا ، فهو الذي فتح بلاد فارس والروم ، وأعز الله به الإسلام ، وأذل به الكفر والنفاق ، وهو الذي وضع الديوان ، وفرض العطاء ، وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار ، وقمع الفجار ، وقوم العمال ، وكان الإسلام في زمنه أعز ما كان .

                  وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف ، ولا يطعن على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - إلا أحد رجلين : إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام ، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام ، وهذا حال المعلم الأول للرافضة ، أول من ابتدع الرفض ، وحال أئمة الباطنية ، وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى ، وهو الغالب على عامة الشيعة ، إذا كانوا مسلمين في الباطن .

                  وإذا قال الرافضي : علي كان معصوما لا يقول برأيه ، بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول .

                  [ ص: 116 ] قيل له : نظيرك في البدعة الخوارج ، كلهم يكفرون عليا ، مع أنهم أعلم وأصدق وأدين من الرافضة ، لا يستريب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء .

                  وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيهم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم " [19]

                  وقد قاتلوه في حياته ، وقتله واحد منهم ، ولهم جيوش وعلماء ومدائن ، وأهل السنة - ولله الحمد - متفقون على أنهم مبتدعة ضالون ، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة ، وأن أمير المؤمنين عليا - رضي الله عنه - كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج .

                  وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ، ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل ، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور ؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون ، [20] وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة : لا يقاتلون مع أئمة الجور ، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار ، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ، ونقل عنه خلاف ذلك ، وهو قول الجمهور ، وأكثر أصحابه [21] خالفوه في ذلك ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وقالوا : يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله [ ص: 117 ] جائزا ، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا قوتل معه ، وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه ، فيعاون على البر والتقوى ، ولا يعاون على الإثم والعدوان ، كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر ، وإن كان في القافلة من هو ظالم .

                  فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم ، لأن الله - تعالى - يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [ سورة المائدة : 2 ] .

                  وقال موسى : ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) [ سورة القصص : 17 ] .

                  وقال - تعالى - : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) [ سورة هود : 113 ] .

                  وقال - تعالى - : ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ) [ سورة النساء : 85 ] .

                  والشفيع : المعين ، فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه ، فلا يجوز أن يعان أحد : لا ولي أمر ولا غيره على ما حرمه الله ورسوله ، وأما إذا كان للرجل ذنوب ، وقد فعل برا ، فهذا إذا أعين على البر ، لم يكن هذا محرما ، كما لو أراد مذنب أن يؤدي زكاته ، أو يحج ، أو يقضي ديونه ، أو يرد بعض ما عنده من المظالم ، أو يوصي على بناته - فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى ، ليس إعانة على إثم وعدوان ، فكيف الأمور العامة ؟

                  [ ص: 118 ] والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور ، فإن لم يغز معهم ، لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون ، فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد ، فإما أن يتعطل ، وإما أن ينفرد به الفجار ، فيلزم من ذلك استيلاء الكفار ، أو ظهور الفجار ، لأن الدين لمن قاتل عليه .

                  وهذا الرأي من أفسد الآراء ، وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم ، حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة : إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال ، هل نقاتلهم ؟ فقال : لا ، المذهب أنا لا نغزو إلا مع المعصوم ، فقال ذلك المستفتي مع عاميته [22] : والله إن هذا لمذهب نجس ، فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا .

                  وصاحب هذا القول تورع [23] فيما يظنه ظلما ، فوقع في أضعاف ما تورع [24] عنه بهذا الورع الفاسد ، وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار ، بل من استيلاء من هو أظلم منه ؟ فالأقل ظلما ينبغي أن يعاون [25] على الأكثر ظلما ؛ فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد ، وتقليلها بحسب الإمكان ، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين ، حتى يقدم عند التزاحم [26] خير الخيرين ويدفع شر الشرين .

                  ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم ، وأما إذا لم يكونوا يظلمون المسلمين ، والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم ، فهذا عدوان منه ، فلا يعاون على العدوان .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية