الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " [ ثم قال ] [1] : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة ، فالقول قول الذين [2] [ صار ] [3] فيهم عبد الرحمن ، لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر ، وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه " .

                  فيقال له : من الذي قال إن عمر قال ذلك ؟ وإن كان قد قال ذلك [4] [ ص: 164 ] فلا يجوز أن يظن به [5] أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له ، ومنع علي معاداة له ، فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ، ولم ينتطح فيها عنزان . كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له ؟ فلو كان [ عمر ] [6] عينه ، لكانوا أعظم متابعة [7] له وطاعة ، سواء كانوا كما يقوله المؤمنون : أهل دين وخير وعدل ، أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم : إن مقصودهم الظلم والشر . لا سيما عمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدا ، والرافضة تسميه : فرعون هذه الأمة . فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر ، والأمر في أوله ، والنفوس لم تتوطن [8] على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا صار لعمر أمر ، فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه ، وقد تمرنوا [9] على طاعته ؟

                  فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ، ولم يحتج إلى هذه الدورة [10] البعيدة .

                  ثم أي غرض يكون لعمر - رضي الله عنه - في عثمان دون علي ؟ وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي ، لا من جهة القبيلة ، ولا من غير جهة القبيلة .

                  [ ص: 165 ] وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ، ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد ، وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد [11] . وهم [12] من قبيلة بني عدي . ولا كان يولي من بني عدي أحدا ، بل ولى رجلا منهم ثم عزله .

                  وكان باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم ، فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمرو بلا غرض يحصله [13] من الدنيا [14] ؟

                  فمن أقصى عشيرته ، وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه ، ثم من مال بني عدي ، ثم من مال قريش ، ولا يؤخذ من بيت المال شيء ، ولا من سائر الناس ، فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما حتى يقدمه ؟ وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه ؟

                  والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك . فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا ، فأي داع يدعوه إلى ذلك ؟ لا سيما عند الموت ، وهو وقت يسلم فيه الكافر ، ويتوب فيه الفاجر . فلو علم أن لعلي حقا دون غيره ، أو أنه أحق بالأمر من غيره ، لكان الواجب أن يقدمه حينئذ : إما توبة إلى الله ، [ وإما تخفيفا للذنب ] [15] ، ( 6 فإنه إذا لم يكن له مانع دنيوي لم يبق إلا الدين ، فلو كان الدين يقتضي ذلك 6 ) [16] [ ص: 166 ] لفعله ، وإلا فليس في العادة أن الرجل يفعل ما يعلم أنه يعاقب عليه ، ولا ينتفع به لا في دين ولا دنيا [17] ، بل لا يفعل ما لا غرض له فيه أصلا ، ويترك ما يحتاج إليه في دينه عند الموت ، مع صحة العقل [ وحضوره ] [18] وطول الوقت .

                  ولو قدر - والعياذ بالله - أنه كان عدوا مبغضا للنبي - صلى الله عليه وسلم - غاية البغضة ، فلا ريب أنه نال بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ناله من السعادة ، ولم يكن عمر ممن يخفى عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادق مصدق [19] ، فإنه كان من أذكى الناس ، ودلائل النبوة من أظهر الأمور ، فهو يعلم [20] أنه إن استمر على معاداته يعذب في الآخرة ، وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه ، فكيف يصرف الأمر عن مستحقه لغير غرض ؟

                  وإن قيل : إنه كان يخاف أن يقال : إنه رجع وتاب ، كما خاف أبو طالب من الإسلام وقت الموت .

                  فيقال : قد كان يمكنه ولاية علي بلا إظهار توبة ، فإنه لو ولى عليا أو غيره لسمع الناس وأطاعوا ، ولم ينتطح في ذلك عنزان . والإنسان قد يكون عليه مظالم فيؤديها على وجه لا يعرف أنه كان ظالما ، فيوصي وقت [ ص: 167 ] الموت لفلان بكذا ولفلان بكذا ، ويجعلها وصية ، ويكون إما معتقدا وإما خائفا أن يكون حقا واجبا عليه .

                  وليس لعمر من يخاف عليه بعد موته ، فإن أقاربه صرف الأمر عنهم ، وهو يعلم أن عليا أعدل وأتقى من أن يظلمهم . ولو قدر أن عليا كان ينتقم من الذين [ لم ] [21] يبايعوه أولا ، فبنو عدي كانوا أبعد الناس عن ذلك ، فإنه [22] لم يكن لهم شوكة ولا كانوا كثيرين ، وهم كلهم محبون لعلي معظمون له ، ليس فيهم من يبغض عليا أو يبغضه علي ، ولا قتل علي منهم أحدا لا في جاهلية ولا إسلام . وكذلك بنو تيم [23] كلهم يحبون عليا [ وعلي يحبهم ] [24] ، ولم يقتل علي منهم أحدا في جاهلية ولا إسلام .

                  ويقال ثانيا : عمر ما زال إذا روجع رجع ، وما زال يعترف غير مرة أنه يتبين له الحق فيرجع إليه ، فإن [25] هذا توبة . ويقول : رجل أخطأ وامرأة أصابت ، ويجدد التوبة لما يعلم أنه يتاب منه . فهذا كان يفعله في حال الحياة ، وهو ذو سلطان على الأرض ، فكيف لا يفعله وقت الموت ؟

                  وقد كان يمكنه أن يحتال لعلي بحيلة يتولى بها ، ولا يظهر ما به يذم [26] ، كما أنه احتال لعثمان . ولو علم أن الحق كان لعلي دون غيره ، لكان له طرق كثيرة في تعيينه تخفى على أكثر الناس .

                  [ ص: 168 ] وكذلك قول القائل : إنه علم [27] أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر ، كذب [ على عمر - رضي الله عنه - ] [28] . ولم يكن بين عثمان وعلي نزاع في حياة عمر أصلا ، بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما [29] ، [ كلاهما ] [30] من بني عبد مناف . وما زال بنو عبد مناف يدا واحدة ، حتى أن أبا سفيان بن حرب أتى عليا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وطلب منه أن يتولى الأمر ، لكون علي كان ابن عم أبي سفيان ، وأبو سفيان كان [31] فيه بقايا من جاهلية العرب ، يكره أن يتولى على الناس رجل من غير قبيلته ، وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف .

                  وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا ، فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي وقال : أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف ؟

                  وكل من يعرف الأمور العادية ، ويعرف ما تقدم من سيرة القوم ، يعلم أن بني هاشم وبني أمية كانوا في غاية الاتفاق في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، حتى أن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ، ورآه العباس ، أخذه وأركبه خلفه ، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له : إن [ ص: 169 ] أبا سفيان [ رجل ] [32] يحب الشرف [33] . وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية ؛ لأنهم كلهم بنو عبد مناف .

                  وحتى أنه كان بين علي وبين رجل آخر [34] من المسلمين منازعة في حد ، فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد ، فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد : هل كان هذا على عهد عمر ؟ فقالوا : نعم [35] . فقال : لو كان هذا ظلما لغيره عمر . فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ، ولم يكن علي حاضرا ، بل كان قد وكل ابن جعفر . وكان [ علي ] [36] يقول : " إن للخصومات قحما [37] ، وإن الشيطان يحضرها " وكان قد وكل عبد الله بن جعفر عنه في المحاكمة .

                  وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم ، كما هو مذهب الشافعي ، و [ أصحاب ] أحمد [38] وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة .

                  فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي ، فقال : أتدري لم فعل ذلك معاوية ؟ [ ص: 170 ] فعل لأجل المنافية . أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف .

                  وكانت قد وقعت حكومة شاورني فيها بعض قضاة القضاة ، وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ، ولم يعرفوا هذه اللفظة : لفظة " المنافية " فبينتها لهم وفسرت لهم معناها .

                  والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وإنما وقعت الفرقة بينهم بعد ذلك ، لما تفرقوا في الإمارة . كما أن بني هاشم كانوا متفقين على عهد الخلفاء الأربعة وعهد بني أمية ، وإنما حصلت الفرقة لما ولي بنو العباس ، وصار بينهم وبين بعض بني أبي طالب [39] فرقة واختلاف . وهكذا عادة الناس ، يكون القوم متفقين إذا لم يكن بينهم ما يتنازعون عليه من جاه أو مال أو غير ذلك ، وإن كان لهم خصم كانوا جميعا إلبا [40] واحدا عليه ، فإذا صار الأمر إليهم تنازعوا واختلفوا .

                  فكان بنو هاشم من آل علي والعباس وغيرهم في الخلافة الأموية متفقين لا نزاع بينهم ، ولما خرج من يدعو إليهم صار يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يعينه ، وكانت العلوية تطمع أن تكون [41] فيهم ، وكان جعفر بن محمد وغيره قد علموا أن هذا الأمر لا يكون إلا في بني العباس ، فلما أزالوا [42] الدولة الأموية ، وصارت الدولة هاشمية ، وبنى السفاح مدينة [ ص: 171 ] سماها الهاشمية ، ثم [43] تولى المنصور ، وقع [44] نزاع بين الهاشميين ، فخرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن على المنصور ، وسير المنصور إليهما من يقاتلهما ، وكانت فتنة عظيمة قتل فيها خلق كثير . ثم إن العباسيين وقع بينهم نزاع ، كما وقع بين الأمين والمأمون أمور أخر . فهذه الأمور [ ونحوها من الأمور ] [45] التي جرت بها العادة [46] .

                  [ ثم إن عثمان وعليا جميعا [47] اتفقا على تفويض الأمر [48] إلى عبد الرحمن بن عوف ، من غير أن يكره أحدهما الآخر ] [49] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية