الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) [1]

                  والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم [2] بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الخلفاء وغير الخلفاء [3] يجوز عليهم الخطأ ، والذنوب التي تقع منهم ، قد يتوبون منها ، وقد تكفر [4] عنهم بحسناتهم الكثيرة ، وقد يبتلون [ أيضا ] [5] بمصائب يكفر الله عنهم بها ، [ ص: 197 ] وقد يكفر عنهم بغير ذلك .

                  فكل [6] ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ . وعثمان - رضي الله عنه - قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة ، منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته .

                  وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له ، بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه [7] .

                  ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه ، وأنه ابتلي ببلاء عظيم ، فكفر الله به خطاياه ، وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما . وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا .

                  [ وكذلك علي - رضي الله عنه - : ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ ، وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة . منها سابقته وإيمانه وجهاده ، وغير ذلك من طاعته ، وشهادة [8] النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة . ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم [ ص: 198 ] عليها ، ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا ] [9] .

                  فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل [ واحد منهم ] [10] هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك . والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان : القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له . والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور . فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات . وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات .

                  وقد أجمع المسلمون [ كلهم ] [11] - حتى الخوارج - على أن الذنوب تمحى بالتوبة ، وأن منها ما يمحى بالحسنات . وما يمكن أحد [12] أن يقول : إن عثمان [ أو عليا أو غيرهما ] لم يتوبوا [13] من ذنوبهم . فهذه حجة على الخوارج الذين يكفرون عثمان وعليا ، وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره ، وعلى الناصبة الذين يخصون عليا بالقدح .

                  ولا ريب أن عثمان - رضي الله عنه - تقابلت [14] فيه طائفتان : شيعته [15] من بني أمية وغيرهم ، ومبغضوه [16] من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم . [ ص: 199 ] لكن شيعته أقل غلوا فيه من شيعة علي ، فما بلغنا أن أحدا منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهية ولا نبوة ، ولا بلغنا أن أحدا اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر .

                  لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ ، ويعتقد فيهم الحلول أو الاتحاد أو العصمة [17] ، يقول ذلك في هؤلاء ، لكن لا يخصهم بذلك .

                  ولكن شيعة عثمان ، الذين كان فيهم انحراف عن علي ، كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل [18] منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات ، وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به . وهو مذهب كثير من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها .

                  ولهذا لما حج سليمان بن عبد الملك ، وتكلم مع أبي حازم في ذلك ، قال له أبو حازم : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) [ سورة ص : 26 ] . وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة [19] .

                  [ ص: 200 ] ولما تولى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفي ، ثم مات ، فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته ، فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ [ الشيعة ] [20] العثمانية ، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات ، حتى أمسك عن مثل طريقة عمر [ بن عبد العزيز ] [21] .

                  ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولي أمرهم ، فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا ، وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته ، ولم يبلغنا أن أحدا منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون ، بل يقولون : إنهم لا يؤاخذون على ذنب ، كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفرة بحسناتهم ، كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر .

                  فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية ، معاوية فمن بعده ، مؤاخذين بذنب ، فكيف يقولون في عثمان - مع سابقته [ وفضله ] [22] وحسن سيرته وعدله ، وأنه من الخلفاء الراشدين ؟

                  وأما الخوارج ، فأولئك يكفرون عثمان وعليا جميعا . ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان . وأما شيعة علي فكثير منهم - أو أكثرهم - يذم عثمان ، حتى الزيدية الذين يترحمون على أبي بكر وعمر ، فيهم من يسب عثمان ويذمه ، وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه .

                  [ ص: 201 ] وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا ، ويجهر بذلك على المنابر وغيرها ؛ لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه . وكان أهل السنة من جميع الطوائف تنكر ذلك عليهم ، وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها ، فكان المتمسك بالسنة يظهر محبة علي وموالاته ، ويحافظ على الصلاة [23] في مواقيتها . حتى رئي عمرو بن مرة الجملي ، وهو من خيار أهل الكوفة : شيخ الثوري وغيره ، بعد موته ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي بحب علي بن أبي طالب ، ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها .

                  وغلت شيعة علي في الجانب الآخر ، حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص ، ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص ، فيجمعون بين الصلاتين دائما في وقت الأولى . وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الجمع إنما كان [ يفعله ] [24] لسبب ، لا سيما الجمع في وقت الأولى ، فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة . وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع . ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائما لا في الحضر ولا في السفر ، بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة . ولكن روي عنه الجمع في غزوة [25] تبوك . وروي أيضا أنه جمع بالمدينة ، لكن نادرا لسبب . والغالب عليه ترك الجمع . فكيف يجمع بين الصلاتين دائما ؟

                  وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر ، فهو خير من تقديم [26] العصر إلى وقت الظهر . فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم . فإن [ ص: 202 ] الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاء بعد الوقت . وأما الظهر قبل الزوال فلا تصلى بحال .

                  وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك . ولم يكن أحد منهم يتعرض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم ، ولا بلغنا أن أحدا منهم كفر عليا ، كما كفرته الخوارج الذين خرجوا عليه من أصحابه . وإنما غاية من يعتدي [27] منهم على علي - رضي الله عنه - أن يقول : كان ظالما ، ويقولون : لم يكن من الخلفاء ، ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان ، والإشارة بقتله في الباطن ، والرضا بقتله .

                  وكل ذلك كذب على علي - رضي الله عنه - . وقد حلف - رضي الله عنه - وهو الصادق بلا يمين - أنه لم يقتل عثمان ، ولا مالأ على قتله ، بل ولا رضي بقتله ، وكان يلعن قتلة عثمان .

                  وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله . فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان ، أو يرضى بذلك .

                  فما قالته شيعة علي في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في علي ؛ فإن كثيرا منهم يكفر عثمان . وشيعة عثمان لم تكفر عليا . ومن لم يكفره يسبه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليا .

                  وأهل السنة يتولون عثمان وعليا جميعا ، ويتبرءون من التشيع والتفرق في الدين ، الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر . وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ، ولطلحة والزبير ، وغيرهما [ ص: 203 ] ممن شهد له الرسول بالجنة ، [ كما قد بسط في موضعه ] [28] . وكان طائفة من السلف يقولون : لا نشهد [29] بالجنة إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة . وهذا قول محمد ابن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث ، كعلي بن المديني وغيره [30] ، يقولون : هم في الجنة ، ولا يقولون [31] : نشهد لهم بالجنة .

                  والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة . وقد ناظر أحمد [ بن حنبل ] [32] لعلي بن المديني في هذه المسألة .

                  وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق . وهذه المسألة لبسطها موضع آخر . والكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يراد بها الطعن عليهم .

                  فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين [ أو كالمعصومين ] [33] . وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور ، إن كانت صدقا فهم مغفور لهم ، أو هم غير مؤاخذين بها ، فإنه ما ثم إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد . والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة . والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم . وهما [34] أصلان : عام وخاص . أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة [ ص: 204 ] المسلمين ، من الصحابة والتابعين [ لهم بإحسان ] [35] وأئمة المسلمين .

                  والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون : ما ثم إلا مثاب في الآخرة أو معاقب ، ومن دخل النار لم يخرج منها : لا بشفاعة ولا غيرها ، ويقولون : إن الكبيرة تحبط جميع الحسنات ، ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء .

                  وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج قوم [36] من النار بعد ما امتحشوا . وثبت أيضا شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته . والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث ، أعظم من تواتر الآثار بنصاب [37] السرقة ، ورجم الزاني المحصن ، ونصب الزكاة ، ووجوب الشفعة ، وميراث الجدة ، وأمثال ذلك .

                  لكن [38] هذا الأصل لا يحتاج إليه في مثل [39] عثمان وأمثاله ممن شهد له بالجنة ، وأن الله رضي عنه ، وأنه لا يعاقبه في الآخرة ، بل نشهد أن العشرة في الجنة ، وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة ، وأن أهل بدر في الجنة ، كما ثبت الخبر بذلك [40] عن الصادق المصدوق ، [ الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ] [41] . وقد دخل في الفتنة خلق من [ ص: 205 ] هؤلاء المشهود لهم بالجنة ، والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية [42] ، وقد قيل : إنه من أهل بيعة الرضوان ، ذكر ذلك ابن حزم .

                  فنحن نشهد لعمار بالجنة ، ولقاتله إن كان من [ أهل ] بيعة الرضوان [43] بالجنة . وأما عثمان وعلي وطلحة والزبير فهم أجل قدرا من غيرهم ، ولو كان منهم ما كان ، فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب ، بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب ، فإن الله لا يعذبه في الآخرة ، ولا يدخله النار ، بل يدخله الجنة بلا ريب ، وعقوبة الآخرة تزول عنه : إما بتوبة منه ، وإما بحسناته الكثيرة [44] ، وإما بمصائبه المكفرة ، وإما بغير ذلك ، كما قد بسطناه في موضعه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية