( فصل ) [1]
والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم [2] بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الخلفاء وغير الخلفاء [3] يجوز عليهم الخطأ ، والذنوب التي تقع منهم ، قد يتوبون منها ، وقد تكفر [4] عنهم بحسناتهم الكثيرة ، وقد يبتلون [ أيضا ] [5] بمصائب يكفر الله عنهم بها ، [ ص: 197 ] وقد يكفر عنهم بغير ذلك .
فكل [6] ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ . وعثمان - رضي الله عنه - قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة ، منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته .
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له ، بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه [7] .
ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه ، وأنه ابتلي ببلاء عظيم ، فكفر الله به خطاياه ، وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما . وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا .
[ وكذلك علي - رضي الله عنه - : ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ ، وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة . منها سابقته وإيمانه وجهاده ، وغير ذلك من طاعته ، وشهادة [8] النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة . ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم [ ص: 198 ] عليها ، ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا ] [9] .
فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل [ واحد منهم ] [10] هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك . والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان : القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له . والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور . فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات . وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات .
وقد أجمع المسلمون [ كلهم ] [11] - حتى الخوارج - على أن الذنوب تمحى بالتوبة ، وأن منها ما يمحى بالحسنات . وما يمكن أحد [12] أن يقول : إن عثمان [ أو عليا أو غيرهما ] لم يتوبوا [13] من ذنوبهم . فهذه حجة على الخوارج الذين يكفرون عثمان وعليا ، وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره ، وعلى الناصبة الذين يخصون عليا بالقدح .
ولا ريب أن عثمان - رضي الله عنه - تقابلت [14] فيه طائفتان : شيعته [15] من بني أمية وغيرهم ، ومبغضوه [16] من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم . [ ص: 199 ] لكن شيعته أقل غلوا فيه من شيعة علي ، فما بلغنا أن أحدا منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهية ولا نبوة ، ولا بلغنا أن أحدا اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر .
لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ ، ويعتقد فيهم الحلول أو الاتحاد أو العصمة [17] ، يقول ذلك في هؤلاء ، لكن لا يخصهم بذلك .
ولكن شيعة عثمان ، الذين كان فيهم انحراف عن علي ، كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل [18] منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات ، وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به . وهو مذهب كثير من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها .
ولهذا لما حج سليمان بن عبد الملك ، وتكلم مع أبي حازم في ذلك ، قال له أبو حازم : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) [ سورة ص : 26 ] . وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة [19] .
[ ص: 200 ] ولما تولى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفي ، ثم مات ، فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته ، فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ [ الشيعة ] [20] العثمانية ، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات ، حتى أمسك عن مثل طريقة عمر [ بن عبد العزيز ] [21] .
ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولي أمرهم ، فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا ، وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته ، ولم يبلغنا أن أحدا منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون ، بل يقولون : إنهم لا يؤاخذون على ذنب ، كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفرة بحسناتهم ، كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر .
فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية ، معاوية فمن بعده ، مؤاخذين بذنب ، فكيف يقولون في عثمان - مع سابقته [ وفضله ] [22] وحسن سيرته وعدله ، وأنه من الخلفاء الراشدين ؟
وأما الخوارج ، فأولئك يكفرون عثمان وعليا جميعا . ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان . وأما شيعة علي فكثير منهم - أو أكثرهم - يذم عثمان ، حتى الزيدية الذين يترحمون على أبي بكر وعمر ، فيهم من يسب عثمان ويذمه ، وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه .
[ ص: 201 ] وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا ، ويجهر بذلك على المنابر وغيرها ؛ لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه . وكان أهل السنة من جميع الطوائف تنكر ذلك عليهم ، وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها ، فكان المتمسك بالسنة يظهر محبة علي وموالاته ، ويحافظ على الصلاة [23] في مواقيتها . حتى رئي عمرو بن مرة الجملي ، وهو من خيار أهل الكوفة : شيخ الثوري وغيره ، بعد موته ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي بحب علي بن أبي طالب ، ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها .
وغلت شيعة علي في الجانب الآخر ، حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص ، ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص ، فيجمعون بين الصلاتين دائما في وقت الأولى . وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الجمع إنما كان [ يفعله ] [24] لسبب ، لا سيما الجمع في وقت الأولى ، فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة . وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع . ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائما لا في الحضر ولا في السفر ، بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة . ولكن روي عنه الجمع في غزوة [25] تبوك . وروي أيضا أنه جمع بالمدينة ، لكن نادرا لسبب . والغالب عليه ترك الجمع . فكيف يجمع بين الصلاتين دائما ؟
وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر ، فهو خير من تقديم [26] العصر إلى وقت الظهر . فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم . فإن [ ص: 202 ] الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاء بعد الوقت . وأما الظهر قبل الزوال فلا تصلى بحال .
وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك . ولم يكن أحد منهم يتعرض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم ، ولا بلغنا أن أحدا منهم كفر عليا ، كما كفرته الخوارج الذين خرجوا عليه من أصحابه . وإنما غاية من يعتدي [27] منهم على علي - رضي الله عنه - أن يقول : كان ظالما ، ويقولون : لم يكن من الخلفاء ، ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان ، والإشارة بقتله في الباطن ، والرضا بقتله .
وكل ذلك كذب على علي - رضي الله عنه - . وقد حلف - رضي الله عنه - وهو الصادق بلا يمين - أنه لم يقتل عثمان ، ولا مالأ على قتله ، بل ولا رضي بقتله ، وكان يلعن قتلة عثمان .
وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله . فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان ، أو يرضى بذلك .
فما قالته شيعة علي في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في علي ؛ فإن كثيرا منهم يكفر عثمان . وشيعة عثمان لم تكفر عليا . ومن لم يكفره يسبه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليا .
وأهل السنة يتولون عثمان وعليا جميعا ، ويتبرءون من التشيع والتفرق في الدين ، الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر . وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ، ولطلحة والزبير ، وغيرهما [ ص: 203 ] ممن شهد له الرسول بالجنة ، [ كما قد بسط في موضعه ] [28] . وكان طائفة من السلف يقولون : لا نشهد [29] بالجنة إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاصة . وهذا قول محمد ابن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث ، كعلي بن المديني وغيره [30] ، يقولون : هم في الجنة ، ولا يقولون [31] : نشهد لهم بالجنة .
والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة . وقد ناظر أحمد [ بن حنبل ] [32] لعلي بن المديني في هذه المسألة .
وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق . وهذه المسألة لبسطها موضع آخر . والكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يراد بها الطعن عليهم .
فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين [ أو كالمعصومين ] [33] . وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور ، إن كانت صدقا فهم مغفور لهم ، أو هم غير مؤاخذين بها ، فإنه ما ثم إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد . والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة . والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم . وهما [34] أصلان : عام وخاص . أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة [ ص: 204 ] المسلمين ، من الصحابة والتابعين [ لهم بإحسان ] [35] وأئمة المسلمين .
والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون : ما ثم إلا مثاب في الآخرة أو معاقب ، ومن دخل النار لم يخرج منها : لا بشفاعة ولا غيرها ، ويقولون : إن الكبيرة تحبط جميع الحسنات ، ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء .
وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج قوم [36] من النار بعد ما امتحشوا . وثبت أيضا شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته . والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث ، أعظم من تواتر الآثار بنصاب [37] السرقة ، ورجم الزاني المحصن ، ونصب الزكاة ، ووجوب الشفعة ، وميراث الجدة ، وأمثال ذلك .
لكن [38] هذا الأصل لا يحتاج إليه في مثل [39] عثمان وأمثاله ممن شهد له بالجنة ، وأن الله رضي عنه ، وأنه لا يعاقبه في الآخرة ، بل نشهد أن العشرة في الجنة ، وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة ، وأن أهل بدر في الجنة ، كما ثبت الخبر بذلك [40] عن الصادق المصدوق ، [ الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ] [41] . وقد دخل في الفتنة خلق من [ ص: 205 ] هؤلاء المشهود لهم بالجنة ، والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية [42] ، وقد قيل : إنه من أهل بيعة الرضوان ، ذكر ذلك ابن حزم .
فنحن نشهد لعمار بالجنة ، ولقاتله إن كان من [ أهل ] بيعة الرضوان [43] بالجنة . وأما عثمان وعلي وطلحة والزبير فهم أجل قدرا من غيرهم ، ولو كان منهم ما كان ، فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب ، بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب ، فإن الله لا يعذبه في الآخرة ، ولا يدخله النار ، بل يدخله الجنة بلا ريب ، وعقوبة الآخرة تزول عنه : إما بتوبة منه ، وإما بحسناته الكثيرة [44] ، وإما بمصائبه المكفرة ، وإما بغير ذلك ، كما قد بسطناه في موضعه .


