وهؤلاء ، وأن القوم ظلموه وغصبوه . الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص ، وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته
ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة . فإن المعصوم يجب [ ص: 188 ] اتباعه في [ كل ] ما يقول [1] ، لا يجوز أن يخالف في شيء . وهذه خاصة الأنبياء ، ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال تعالى : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) [ سورة البقرة : 136 ] ، فأمرنا أن نقول : آمنا بما أوتي النبيون .
وقال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [ سورة البقرة : 285 ] .
وقال تعالى : ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) [ سورة البقرة : 177 ] .
. وهذا مما اتفق عليه المسلمون : أنه يجب الإيمان بكل نبي ، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ، ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء . فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به
وليس كذلك من سوى الأنبياء ، سواء سموا أولياء أو أئمة [ أو حكماء ] [2] أو علماء أو غير ذلك . فقد أعطاه معنى النبوة ، وإن لم يعطه لفظها . فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله
ويقال لهذا : ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا [ ص: 189 ] مأمورين باتباع شريعة التوراة ؟
وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك . ويقولون [3] : الشيخ محفوظ ، ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل ، لا يخالف في شيء أصلا . وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية : تدعي في أئمتها أنهم كانوا معصومين .
وأصحاب ابن تومرت [4] الذي ادعى أنه المهدي يقولون : إنه معصوم ، ويقولون في خطبة الجمعة : الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ، ويقال : إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما .
ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام : للكتاب [5] والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها . فإن الله تعالى يقول : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) الآية [ سورة النساء : 59 ] [ ص: 190 ] ، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول [6] ، أوجب رد ما تنازعوا فيه فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول [7] إليه ؛ لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول . وهذا خلاف القرآن .
وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ، ومخالفه يستحق الوعيد . والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة . قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [ سورة النساء : 69 ] . وقال : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) [ سورة الجن : 23 ] . فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر .
ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد ، وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار ، وبين الأبرار والفجار ، وبين الحق والباطل ، وبين الغي والرشاد ، والهدى والضلال ، وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد ، فمن اتبعه فهو السعيد ، ومن خالفه فهو الشقي . وليست هذه المرتبة لغيره .
ولهذا اتفق أهل العلم - أهل الكتاب والسنة - على أن [8] يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر ، وطاعته في كل ما أمر ، فإنه المعصوم الذي كل شخص [ ص: 191 ] سوى الرسول فإنه [9] لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [ سورة الأعراف : 6 ] .
وهو الذي يمتحن به الناس [10] في قبورهم ، فيقال لأحدهم : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ويقال : ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، فيقول : هو عبد الله ورسوله ، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه . ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة [11] والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك ، ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول .
والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى علي [12] منه عن ، فإن عثمان قاتل على الولاية ، وقتل بسبب ذلك خلق كثير [ عظيم ] عليا [13] ، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ، ولا فتح لبلادهم ، ولا كان المسلمون في زيادة خير ، وقد ولى من أقاربه من ولاه ، فولاية الأقارب مشتركة ، ونواب كانوا أطوع من نواب عثمان وأبعد عن [ ص: 192 ] الشر . علي
وأما الأموال التي تأول فيها [ عثمان ] [14] ، فكما تأول علي في الدماء . وأمر الدماء أخطر وأعظم .
ويقال : ثانيا : هذا النص الذي تدعونه أنتم فيه مختلفون اختلافا يوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يعتمد عليه فيه ، بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا .
وأيضا فجماهير المسلمين يقولون : إنا نعلم علما يقينا [15] ، بل ضروريا كذب هذا النص ، بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها .
ويقال [16] : ثالثا : إذا كان كذلك ظهرت حجة ؛ فإن عثمان يقول : إن عثمان بني أمية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعملهم في حياته ، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة : فيهم - رضي الله عنه - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - . ولا نعرف قبيلة من قبائل وعمر قريش فيها عمال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني عبد شمس ؛ لأنهم كانوا كثيرين ، وكان فيهم شرف وسؤدد ، فاستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ، واستعمل على نجران ، واستعمل [ أيضا ] أبا سفيان بن حرب بن أمية [17] على صدقات خالد بن سعيد بن العاص بني مذحج [ ص: 193 ] وعلى صنعاء اليمن ، فلم يزل عليها [18] حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة ، واستعمل على بعض السرايا ، ثم استعمله على أبان بن سعيد بن العاص البحرين فلم يزل عليها بعد حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستعمل العلاء بن الحضرمي [19] الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل [ الله ] فيه : [20] ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) الآية [ سورة الحجرات : 6 ] .
فيقول : أنا لم أستعمل إلا من استعمله عثمان [21] النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم [22] ومن جنسهم ومن قبيلتهم ، وكذلك أبو بكر بعده ، [ فقد ولى وعمر أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام ، وأقره ، ثم ولى عمر بعده أخاه عمر ] معاوية [23] .
وهذا النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في استعمال هؤلاء ثابت مشهور [ عنه ] [24] ، بل متواتر عند [25] أهل العلم ، ومنه متواتر عند علماء الحديث [26] ، ومنه ما يعرفه العلماء منهم ، ولا ينكره أحد منهم .
فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن [ ص: 194 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص ؛ لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل ، [ وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل [27] .
وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم إلا - رضي الله عنه - على علي بن أبي طالب اليمن . وولى أيضا على اليمن معاذ بن جبل ، وولى وأبا موسى الأشعري على قتال جعفر بن أبي طالب مؤتة ، وولى قبل جعفر زيد بن حارثة [28] [ مولاه ] [29] ، وقيل : . فهذا عبد الله بن رواحة مولاه ، وهو من كلب ، على زيد بن حارثة جعفر بن أبي طالب . وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم في الولاية سأله ولاية فلم يوله إياها . العباس
وليس في بني هاشم بعد علي أفضل من حمزة وجعفر [ وعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي قتل يوم بدر ] [30] ، فحمزة [31] لم يتول شيئا ، فإنه قتل يوم أحد شهيدا - رضي الله عنه - .
وما ينقله بعض الترك ، بل وشيوخهم ، من سيرة حمزة ويتداولونها بينهم ، ويذكرون له حروبا وحصارات وغير ذلك ، فكله [32] كذب ، من جنس ما يذكره الذاكرون [33] من الغزوات المكذوبة على علي بن أبي [ ص: 195 ] طالب ، بل وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ، [ من جنس ما يذكره أبو الحسن البكري صاحب " تنقلات الأنوار " فيما وضعه من السيرة [34] ، فإنه من جنس ما يفتريه الكذابون من سيرة داهمة والبطالين [35] والعيارين ونحو ذلك ] [36] .
فإن مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروفة مضبوطة عند أهل العلم ، وكانت بضعا وعشرين غزوة ، لكن لم يكن القتال منها إلا في تسع مغاز : بدر ، وأحد ، والخندق ، وبني المصطلق ، والغابة ، وفتح خيبر ، وفتح مكة ، وحنين ، والطائف ، وهي آخر غزوات القتال . لكن لما حاصر الطائف [37] ، وكان بعدها غزوة تبوك ، وهي آخر المغازي وأكثرها عددا وأشقها على الناس ، وفيها أنزل الله سورة براءة ، لكن لم يكن فيها قتال .
وما يذكره جهال الحجاج من حصار تبوك كذب لا أصل له ، فلم يكن بتبوك حصن ولا مقاتلة . وقد أقام بها رسول الله [38] - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 196 ] عشرين ليلة ، ثم رجع إلى المدينة النبوية .
وإذا كان جعفر أفضل بني هاشم بعد في حياته ، ثم مع هذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي - وهو من زيد بن حارثة كلب - عليه [39] ، علم أن التقديم بفضيلة الإيمان والتقوى ، وبحسب أمور أخر ، بحسب المصلحة لا بالنسب . ولهذا أبا بكر على أقاربه وعمر ؛ لأن رسول الله يأمر بأمر الله ، ليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم . وكذلك كان قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنهما - حتى قال وعمر : " عمر " . من أمر رجلا لقرابة أو صداقة بينهما ، وهو يجد في المسلمين خيرا منه ، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين