الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فإن الذنوب مطلقا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب ، لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب .

                  [ ص: 206 ] السبب الأول : التوبة ؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له . والتوبة مقبولة من جميع الذنوب : الكفر ، والفسوق ، والعصيان . قال الله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ سورة الأنفال : 38 ] وقال تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [ سورة التوبة : 11 ] .

                  وقال تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) [ سورة المائدة : 73 - 74 ] .

                  وقال : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) [ سورة البروج : 10 ] . قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ، ثم هو يدعوهم إلى التوبة .

                  والتوبة عامة لكل [ عبد ] [1] مؤمن ، كما قال تعالى : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ) [ سورة الأحزاب : 72 - 73 ] .

                  وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة ، كقوله : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 37 ] [ ص: 207 ] وقول إبراهيم وإسماعيل : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 127 ، 128 ] .

                  وقال موسى : ( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك ) [ سورة الأعراف : 155 ، 156 ] .

                  وقوله : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) [ سورة القصص : 16 ] .

                  وقوله : ( تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) [ سورة الأعراف : 143 ] .

                  وكذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما .

                  وأما المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فكثير مشهور . وأصحابه كانوا أفضل قرون الأمة ، فهم أعرف القرون بالله ، وأشدهم له خشية ، وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته .

                  فمن ذكر ما عيب عليهم ، ولم يذكر توبتهم ، التي بها رفع الله درجتهم ، كان ظالما لهم ، كما جرى من بعضهم يوم الحديبية ، وقد تابوا منه ، مع أنه كان قصدهم الخير . وكذلك قصة حاطب [ بن أبي بلتعة ] تاب منها [2] ، بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ، كما تاب ماعز بن مالك وأتى [ إلى ] [3] النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى [ ص: 208 ] طهره بإقامة الحد عليه [4] . وكذلك الغامدية [ بعده ] [5] . وكذلك كانوا زمن عمر [ وغيره ] [6] إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره ، فقال : طهرني وأقم علي الحد . فهذا فعل من يأتي الكبيرة منهم حين[7] يعلمها حراما ، فكيف إذا أتى أحدهم الصغيرة [8] أو ذنبا تأول فيه ثم تبين له خطؤه ؟

                  وعثمان بن عفان - رضي الله عنه - تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا [9] ينكرونها ، ويظهر له [10] أنها منكر . وهذا مأثور مشهور عنه [ - رضي الله عنه وأرضاه - ] [11] .

                  وكذلك عائشة - رضي الله عنها - ندمت على مسيرها إلى البصرة ، وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها .

                  وكذلك طلحة ندم على [ ما ظن من ] [12] تفريطه في نصر عثمان وعلى غير ذلك . والزبير ندم على مسيره يوم الجمل .

                  [ ص: 209 ] وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ندم على أمور فعلها من القتال وغيره ، وكان يقول :

                  لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر


                  وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

                  وكان يقول ليالي صفين : " لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك ؛ إن كان برا إن أجره لعظيم ، وإن كان إثما إن خطره ليسير " وكان يقول : " يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا ، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة " .

                  ولما رجع من صفين تغير كلامه ، وكان يقول : " لا تكرهوا إمارة [13] معاوية ، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرءوس تتطاير عن كواهلها " . وقد روي هذا عن علي - رضي الله عنه - من وجهين أو ثلاثة . وتواترت الآثار بكراهته [14] الأحوال في آخر الأمر ، ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم ، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل .

                  وبالجملة ليس علينا أن نعرف كل واحد تاب ، ولكن نحن نعلم أن التوبة مشروعة لكل عبد : للأنبياء ولمن دونهم ، وأن الله - سبحانه - يرفع عبده بالتوبة ، وإذا ابتلاه بما يتوب منه ، فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية ، فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وهو يبدل بالتوبة السيئات حسنات .

                  [ ص: 210 ] والذنب مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك ، ما لم يكن يحصل قبل ذلك ؛ ولهذا قال طائفة من السلف : إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة ، ويفعل الحسنة ( * فيدخل بها النار . يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه [15] ، إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة ، ويفعل الحسنة * ) [16] فيعجب بها فيدخل النار .

                  وفي الأثر : لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب ، وهو العجب . وفي أثر آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه .

                  وفي أثر آخر : " يقول الله تعالى : أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم [17] من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، فإن الله يحب التوابين [ ويحب المتطهرين ] [18] ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب " [19] . والتائب حبيب الله سواء كان شابا أو شيخا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية