الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قال [ الرازي ] : [1]

                  ( البرهان السادس : أن الممكن إذا لم يوجد فعدمه إما أن يكون لأمر أو لا لأمر ، ومحال أن يكون لا لأمر ، فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو ، وكل ما ( هويته ) كافية في عدمه ، فهو ممتنع الوجود ، فإذن الممكن العدم [2] ممتنع الوجود ، هذا خلف ، فتبين [3] أن يكون لأمر ، ثم ذلك المؤثر لا يخلو إما أن يشترط في تأثيره فيه تجدده أو لا يشترط ، ومحال أن يشترط ذلك ، [ فإن الكلام ] [4] مفروض في العدم السابق على وجوده ، والعدم المتجدد هو العدم بعد الوجود ، فإذن لا يشترط في استناد عدم الممكنات إلى ما يقتضي عدمها تجدده [5] ، وإذا كان العدم الممكن مستندا إلى [ ص: 259 ] المؤثر من غير شرط التجدد علمنا أن الحاجة والافتقار لا يتوقف على التجدد ، وهو المطلوب ) [6] .

                  فيقال : من العجائب ، بل من أعظم المصائب أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا [7] المذهب الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا ، بل الحوادث تحدث بلا خالق ، وفي إبطال أديان [ أهل ] [8] الملل ، وسائر العقلاء من الأولين والآخرين لكن هذه [9] الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول ، بل تخرج أصحابها عن العقل والدين كخروج الشعرة من العجين إما بالجحد والتكذيب وإما بالشك والريب احتجنا إلى بيان بطلانها للحاجة إلى مجاهدة أهلها ، وبيان فسادها من أصلها [10] إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان ما لا يحيط به إلا الرحمن .

                  والجواب من وجوه :

                  أحدها : أن يقال : قد تقدم قولكم قبل هذا بأسطر إن العدم نفي محض ، فلا حاجة به إلى المؤثر أصلا . وجعلتم هذا مقدمة في الحجة التي قبل هذه فكيف تقولون بعد هذا بأسطر المعدوم الممكن لا يكون عدمه إلا لموجب ؟ .

                  [ ص: 260 ] . وقدمنا أن جماهير نظار المسلمين وغيرهم يقولون : إن العدم لا يفتقر إلى علة ، وما علمت أحدا من النظار جعل عدم الممكن مفتقرا إلى علة إلا هذه الطائفة القليلة من متأخري [11] المتفلسفة كابن سينا وأتباعه وإلا فليس هذا قول قدماء الفلاسفة لا أرسطو ولا أصحابه كبرقلس [12] ، والإسكندر الأفروديسي [13] شارح كتبه ، وثامسيطوس [14] ، ولا غيرهم [ من [ ص: 261 ] الفلاسفة ] [15] ، ولا هو قول أحد من النظار كالمعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم ، فليس هو قول طائفة من طوائف النظار لا المتكلمة ، ولا المتفلسفة ، ولا غيرهم .

                  الوجه الثاني : أن يقال : قوله : ( محال أن يكون ( معدوما ) لا لأمر ، فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو ، وكل ما هويته كافية في عدمه ، فهو ممتنع الوجود ) .

                  فيقال : هذا تلازم باطل ، فإنه إذا كان معدوما لا لأمر لم يكن معدوما لا لذاته ، ولا لغير ذلك ، فقولك : ( فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو ) باطل ، فإنه يقتضي أنه معدوم لأجل ذاته ، وأن ذاته هي العلة في كونه معدوما كالممتنع لذاته ، وهذا يناقض قولنا معدوم لا لأمر ، فكيف يكون نفي [16] الشيء لازما لثبوته ؟ .

                  فإن قيل : مراده إما أن يكون لأمر ، أو لا لأمر خارجي قيل : فتكون القسمة غير حاصرة ، وهو أن يكون معدوما لا لعلة .

                  الوجه الثالث : أن يقال : الفرق معلوم بين قولنا : ذاته لا تقتضي وجوده ولا عدمه ، أو لا تستلزم [17] وجوده ، ولا عدمه ، أو لا توجب وجوده ولا عدمه ، وبين قولنا تقتضي وجوده أو عدمه ، أو تستلزم ذلك أو توجبه ، فإن ما استلزمت ذاته وجوده كان واجبا بنفسه ، وما استلزمت عدمه كان ممتنعا ، وما لم تستلزم واحدا منهما لم يكن واجبا ولا ممتنعا ، بل كان هو الممكن .

                  [ ص: 262 ] فإذا قيل : إنه معدوم لا لأمر لم يوجب أن يكون هناك أمر يستلزم عدمه [18] ، بل يقتضي ألا يكون هناك أمر [19] يستلزم وجوده ، ومعلوم أنه على هذا التقدير لا يكون ممتنع الوجود .

                  ولهذا يقول المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فمشيئته مستلزمة لوجود مراده ، وما لا يشاؤه لا يكون ، فعدم مشيئته مستلزم لعدمه لا أن العدم [20] فعل شيئا ، بل هو ملزوم له ، وإذا فسرت العلة هنا بالملزوم ، وكان النزاع لفظيا ، ولم يكن لهم فيه حجة .

                  وقولنا : ذاته استلزمت وجوده ، أو استلزمت عدمه [21] لا ينبغي أن يفهم منه أن في الخارج شيئا كان ملزوما لغيره ، فإن الممتنع ليس بشيء أصلا في الخارج باتفاق العقلاء ، ولكن حقيقة الأمر أن نفسه هي اللازم ، والملزوم إما الوجود وإما العدم [22] ، فعدم الممتنع ملزوم عدمه ، ووجود الواجب ملزوم وجوده ، وأما الممكن فليس له من نفسه وجود ولا عدم ملزوم [ لوجود ] [23] ولا عدم ، بل إن حصل ما يوجده ، وإلا بقي معدوما .

                  [ الوجه ] [24] الرابع : أن يقال : إذا كان كل ممكن لا يعدم إلا بعلة [ ص: 263 ] معدومة مؤثرة في عدمه ، فتلك العلة المعدومة إن كان عدمها واجبا كان وجودها ممتنعا ، فإن المعلول يجب بوجوب علته ، ويمتنع بامتناعها ، وحينئذ فيكون عدم الممكن علته واجبة ، ووجوده ممتنعا ، فإن المعلول يجب بوجوب علته ، ويمتنع بامتناعها ، وحينئذ [25] كل ممكن يقدر إمكانه ، فإنه ممتنع ، وهذا فيه من الجمع بين النقيضين ما هو في غاية الاستحالة : كيفية وكمية .

                  وإن قيل : عدم علته يفتقر إلى عدم يؤثر في وجودها وعدم ذاك المؤثر لعدم مؤثر فيه ، وهلم جرا ، فلذلك يستلزم التسلسل الباطل الذي هو أبطل من تسلسل المؤثرات الوجودية .

                  [ الوجه ] [26] الخامس : [ أن يقال ] [27] : إنه لو فرض أن العدم المستمر له علة قديمة ، وأن المعلول إذا كان عدما مستمرا كانت علته التي هي عدم مستمر علة أزلية لم يلزم من ذلك أن يكون الموجود المعين الذي يمكن أن يوجد وأن يعدم قديما أزليا ، ويكون الفاعل له لم يزل فاعلا له بحيث يكون فاعل الموجودات لم يحدث شيئا قط ، فإن قياس الموجود الواجب القديم الأزلي الخالق فاعل الموجودات المخلوقة على العدم المستمر المستلزم لعدم مستمر من أفسد القياس ، وهو قياس محض من غير جامع ، فكيف يجوز الاحتجاج بمثل هذا التشبيه الفاسد في مثل هذا [ ص: 264 ] الأصل العظيم ، ويجعل [28] خلق رب العالمين لمخلوقاته مثل كون العدم علة للعدم [29] .

                  وهل هذا إلا أفسد من قول الذين ذكر الله عنهم إذ قال : ( فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ) [ سورة الشعراء : 94 - 98 ] فإذا كان هذا حال من سوى [30] بينه وبين بعض الموجودات ، فكيف بمن سوى بينه وبين العدم المحض .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية