قال [ الرازي ] : [1]
( البرهان السادس : أن ، فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو ، وكل ما ( هويته ) كافية في عدمه ، فهو ممتنع الوجود ، فإذن الممكن العدم الممكن إذا لم يوجد فعدمه إما أن يكون لأمر أو لا لأمر ، ومحال أن يكون لا لأمر [2] ممتنع الوجود ، هذا خلف ، فتبين [3] أن يكون لأمر ، ثم ذلك المؤثر لا يخلو إما أن يشترط في تأثيره فيه تجدده أو لا يشترط ، ومحال أن يشترط ذلك ، [ فإن الكلام ] [4] مفروض في العدم السابق على وجوده ، والعدم المتجدد هو العدم بعد الوجود ، فإذن لا يشترط في استناد عدم الممكنات إلى ما يقتضي عدمها تجدده [5] ، وإذا كان العدم الممكن مستندا إلى [ ص: 259 ] المؤثر من غير شرط التجدد علمنا أن الحاجة والافتقار لا يتوقف على التجدد ، وهو المطلوب ) [6] .
فيقال : من العجائب ، بل من أعظم المصائب أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا [7] المذهب الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا ، بل الحوادث تحدث بلا خالق ، وفي إبطال أديان [ أهل ] [8] الملل ، وسائر العقلاء من الأولين والآخرين لكن هذه [9] الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول ، بل تخرج أصحابها عن العقل والدين كخروج الشعرة من العجين إما بالجحد والتكذيب وإما بالشك والريب احتجنا إلى بيان بطلانها للحاجة إلى مجاهدة أهلها ، وبيان فسادها من أصلها [10] إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان ما لا يحيط به إلا الرحمن .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال : قد تقدم قولكم قبل هذا بأسطر إن العدم نفي محض ، فلا حاجة به إلى المؤثر أصلا . وجعلتم هذا مقدمة في الحجة التي قبل هذه فكيف تقولون بعد هذا بأسطر المعدوم الممكن لا يكون عدمه إلا لموجب ؟ .
[ ص: 260 ] . وقدمنا أن جماهير نظار المسلمين وغيرهم يقولون : إن العدم لا يفتقر إلى علة ، وما علمت أحدا من النظار جعل عدم الممكن مفتقرا إلى علة إلا هذه الطائفة القليلة من متأخري [11] المتفلسفة وأتباعه وإلا فليس هذا قول قدماء الفلاسفة لا كابن سينا أرسطو ولا أصحابه كبرقلس [12] ، والإسكندر الأفروديسي [13] شارح كتبه ، وثامسيطوس [14] ، ولا غيرهم [ من [ ص: 261 ] الفلاسفة ] [15] ، ولا هو قول أحد من النظار كالمعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم ، فليس هو قول طائفة من طوائف النظار لا المتكلمة ، ولا المتفلسفة ، ولا غيرهم .
الوجه الثاني : أن يقال : قوله : ( محال أن يكون ( معدوما ) لا لأمر ، فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو ، وكل ما هويته كافية في عدمه ، فهو ممتنع الوجود ) .
فيقال : هذا تلازم باطل ، فإنه إذا كان معدوما لا لأمر لم يكن معدوما لا لذاته ، ولا لغير ذلك ، فقولك : ( فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو ) باطل ، فإنه يقتضي أنه معدوم لأجل ذاته ، وأن ذاته هي العلة في كونه معدوما كالممتنع لذاته ، وهذا يناقض قولنا معدوم لا لأمر ، فكيف يكون نفي [16] الشيء لازما لثبوته ؟ .
فإن قيل : مراده إما أن يكون لأمر ، أو لا لأمر خارجي قيل : فتكون القسمة غير حاصرة ، وهو أن يكون معدوما لا لعلة .
الوجه الثالث : أن يقال : الفرق معلوم بين قولنا : ذاته لا تقتضي وجوده ولا عدمه ، أو لا تستلزم [17] وجوده ، ولا عدمه ، أو لا توجب وجوده ولا عدمه ، وبين قولنا تقتضي وجوده أو عدمه ، أو تستلزم ذلك أو توجبه ، فإن ما استلزمت ذاته وجوده كان واجبا بنفسه ، وما استلزمت عدمه كان ممتنعا ، وما لم تستلزم واحدا منهما لم يكن واجبا ولا ممتنعا ، بل كان هو الممكن .
[ ص: 262 ] فإذا قيل : إنه معدوم لا لأمر لم يوجب أن يكون هناك أمر يستلزم عدمه [18] ، بل يقتضي ألا يكون هناك أمر [19] يستلزم وجوده ، ومعلوم أنه على هذا التقدير لا يكون ممتنع الوجود .
ولهذا يقول المسلمون : فعدم مشيئته مستلزم لعدمه لا أن العدم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فمشيئته مستلزمة لوجود مراده ، وما لا يشاؤه لا يكون ، [20] فعل شيئا ، بل هو ملزوم له ، وإذا فسرت العلة هنا بالملزوم ، وكان النزاع لفظيا ، ولم يكن لهم فيه حجة .
وقولنا : ذاته استلزمت وجوده ، أو استلزمت عدمه [21] لا ينبغي أن يفهم منه أن في الخارج شيئا كان ملزوما لغيره ، فإن الممتنع ليس بشيء أصلا في الخارج باتفاق العقلاء ، ولكن حقيقة الأمر أن نفسه هي اللازم ، والملزوم إما الوجود وإما العدم [22] ، فعدم الممتنع ملزوم عدمه ، ووجود الواجب ملزوم وجوده ، وأما الممكن فليس له من نفسه وجود ولا عدم ملزوم [ لوجود ] [23] ولا عدم ، بل إن حصل ما يوجده ، وإلا بقي معدوما .
[ الوجه ] [24] الرابع : أن يقال : إذا كان كل ممكن لا يعدم إلا بعلة [ ص: 263 ] معدومة مؤثرة في عدمه ، فتلك العلة المعدومة إن كان عدمها واجبا كان وجودها ممتنعا ، فإن المعلول يجب بوجوب علته ، ويمتنع بامتناعها ، وحينئذ فيكون عدم الممكن علته واجبة ، ووجوده ممتنعا ، فإن المعلول يجب بوجوب علته ، ويمتنع بامتناعها ، وحينئذ [25] كل ممكن يقدر إمكانه ، فإنه ممتنع ، وهذا فيه من الجمع بين النقيضين ما هو في غاية الاستحالة : كيفية وكمية .
وإن قيل : عدم علته يفتقر إلى عدم يؤثر في وجودها وعدم ذاك المؤثر لعدم مؤثر فيه ، وهلم جرا ، فلذلك يستلزم التسلسل الباطل الذي هو أبطل من تسلسل المؤثرات الوجودية .
[ الوجه ] [26] الخامس : [ أن يقال ] [27] : إنه لو فرض أن العدم المستمر له علة قديمة ، وأن المعلول إذا كان عدما مستمرا كانت علته التي هي عدم مستمر علة أزلية لم يلزم من ذلك أن يكون الموجود المعين الذي يمكن أن يوجد وأن يعدم قديما أزليا ، ويكون الفاعل له لم يزل فاعلا له بحيث يكون فاعل الموجودات لم يحدث شيئا قط ، فإن قياس الموجود الواجب القديم الأزلي الخالق فاعل الموجودات المخلوقة على العدم المستمر المستلزم لعدم مستمر من أفسد القياس ، وهو قياس محض من غير جامع ، فكيف يجوز الاحتجاج بمثل هذا التشبيه الفاسد في مثل هذا [ ص: 264 ] الأصل العظيم ، ويجعل [28] خلق رب العالمين لمخلوقاته مثل كون العدم علة للعدم [29] .
وهل هذا إلا أفسد من قول الذين ذكر الله عنهم إذ قال : ( فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ) [ سورة الشعراء : 94 - 98 ] فإذا كان هذا حال من سوى [30] بينه وبين بعض الموجودات ، فكيف بمن سوى بينه وبين العدم المحض .