الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  السبب السابع : المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا [1] . ( * كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غم ولا هم [2] ، ولا حزن ولا أذى ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه [3] ، [4] " .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مثل [ ص: 229 ] المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها [5] الرياح ، تقومها تارة وتميلها أخرى . ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة ، لا تزال ثابتة على أصلها ، حتى يكون انجعافها مرة واحدة " [6] .

                  وهذا المعنى متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ في أحاديث كثيرة ] [7] . والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يبتلون بالمصائب الخاصة ، وابتلوا بمصائب مشتركة ، كالمصائب التي حصلت في الفتن ، ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا ، والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم ، وهذا أصيب في ماله ، وهذا أصيب بجراحته ، وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزه ، [ ص: 230 ] إلى غير ذلك ، فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة ، فكيف الصحابة ؟ وهذا مما لا بد منه .

                  وقد ثبت في الصحيح [8] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة ، فأعطانيها ، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم [ فيجتاحهم ] [9] ، فأعطانيها . وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " [10] .

                  [ ص: 231 ] وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما نزل قوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) [ سورة الأنعام : 65 ] . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بوجهك " ( 1 ( أو من تحت أرجلكم ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بوجهك " 1 ) [11] ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال : " هذا أهون وأيسر " [12] .

                  فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما . والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم ، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف [13] .

                  ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة ، فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان : بدعة الخوارج المكفرين لعلي ، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته ، أو نبوته أو إلاهيته .

                  ثم لما كان في آخر عصر الصحابة ، في إمارة ابن الزبير وعبد الملك ، حدثت بدعة المرجئة والقدرية . ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة . ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك [14] .

                  وكذلك فتن السيف ، فإن الناس كانوا في ولاية معاوية - رضي الله عنه - متفقين يغزون العدو ، فلما مات معاوية قتل الحسين ، وحوصر ابن الزبير بمكة ، ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة .

                  [ ص: 232 ] ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط .

                  ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة .

                  ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة .

                  ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة . [15]

                  وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة .

                  ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه ابن الأشعث [16] مع خلق عظيم من العراق [17] وكانت فتنة كبيرة ، فهذا كله بعد موت معاوية .

                  ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان ، وقتل زيد بن علي بالكوفة ، وقتل خلق كثير آخرون .

                  ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها ، ثم هلم جرا .

                  فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ، ولا كان الناس في زمان [18] ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية ، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده . وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل .

                  وقد روى أبو بكر الأثرم ، ورواه ابن بطة من طريقه ، حدثنا محمد بن [ ص: 233 ] عمرو بن جبلة [19] ، حدثنا محمد بن مروان ، عن يونس ، عن قتادة قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدي .

                  وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال : لو أدركتم معاوية لقلتم : هذا المهدي .

                  ورواه الأثرم : حدثنا محمد بن حواش [20] ، حدثنا أبو هريرة المكتب قال : كنا عند الأعمش ، فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ [21] قال : لا والله ، بل في عدله .

                  وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : لما قدم معاوية فرض للناس [22] على أعطية [23] آبائهم حتى انتهى إلي ، فأعطاني ثلاثمائة درهم .

                  وقال عبد الله : أخبرنا [24] أبو سعيد الأشج ، حدثنا [25] أبو أسامة ، ثنا [ الثقفي ] [26] ، عن أبي إسحاق ، يعني السبيعي [27] ، أنه [ ذكر معاوية ] [28] [ ص: 234 ] فقال : لو [ أدركتموه أو ] أدركتم [29] أيامه لقلتم : كان المهدي [30] .

                  وروى الأثرم ، حدثنا محمد بن العلاء ، عن أبي [ بكر ] [31] بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : ما رأيت [32] بعده مثله ، يعني معاوية .

                  وقال البغوي : حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا ضمام بن إسماعيل ، عن أبي قيس [33] قال : كان معاوية قد جعل في كل قبيل [34] رجلا ، وكان رجل منا يكنى أبا يحيى ، يصبح كل يوم فيدور على المجالس : هل ولد فيكم الليلة ولد ؟ هل حدث الليلة حدث [35] ؟ هل نزل اليوم بكم [36] نازل ؟ قال : فيقولون : نعم ، نزل رجل من أهل اليمن بعياله ، يسمونه وعياله ، فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان ، فأوقع أسماءهم في الديوان .

                  وروى محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا ابن أبي مريم ، عن عطية بن قيس قال : سمعت معاوية [ بن أبي سفيان ] [37] يخطبنا يقول : إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم [38] ، وإني قاسمه بينكم ، فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم ، وإلا فلا عتبة علي ، فإنه ليس بمالي ، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم .

                  [ ص: 235 ] وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة . وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ؟ إنه أوتر بركعة [39] ؟ قال : أصاب إنه فقيه [40] .

                  وروى البغوي في معجمه بإسناده ، ورواه ابن بطة من وجه آخر ، كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز ، عن إسماعيل بن عبد الله [41] بن أبي المهاجر ، عن قيس بن الحارث ، عن الصنابحي ، عن أبي الدرداء قال : ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا . يعني معاوية [42] .

                  فهذه [43] شهادة الصحابة بفقهه ودينه ، والشاهد بالفقه ابن عباس ، وبحسن الصلاة أبو الدرداء ، وهما هما . والآثار الموافقة لهذا كثيرة [44] .

                  [ ص: 236 ] هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين ، بل قد قيل : إنه من مسلمة الفتح . وقيل : أسلم قبل ذلك . وكان يعترف بأنه [45] ليس من فضلاء الصحابة . وهذه سيرته مع عموم ولايته ، فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ، ومن قبرص إلى اليمن .

                  ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي ، فضلا عن أبي بكر وعمر . فكيف يشبه غير الصحابة بهم ؟ وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة [46] معاوية - رضي الله عنه - [47]

                  والمقصود أن الفتن التي بين الأمة ، والذنوب التي لها بعد الصحابة ، أكثر وأعظم . ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة لهم . وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة .

                  قال عبد الله بن [ الإمام ] أحمد [48] : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل ، يعني ابن علية ، حدثنا أيوب [ يعني ] السختياني [49] ، عن محمد بن سيرين قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف ، فما حضرها [50] منهم مائة ، بل لم يبلغوا [51] ثلاثين . وهذا الإسناد [ ص: 237 ] من أصح إسناد [52] على وجه الأرض . ومحمد بن سيرين [ من ] [53] أورع الناس في منطقه ، ومراسيله من أصح المراسيل .

                  وقال عبد الله : حدثنا أبي ، ( * حدثنا إسماعيل ، حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال : قال الشعبي : لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير علي وعمار وطلحة والزبير ، فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب .

                  وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا أبي [54] * ) ، حدثنا أمية بن خالد قال : قيل لشعبة : إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا . فقال : كذب والله ، لقد ذاكرت الحكم بذلك ، وذاكرناه في بيته ، فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت .

                  قلت : هذا النفي يدل على قلة من حضرها ، وقد قيل : إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب . وكلام ابن سيرين مقارب [55] فما يكاد يذكر مائة واحد .

                  وقد روى ابن بطة عن بكير بن الأشج قال : أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية