وأما قوله : " وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل [1] . وعابوا أفعاله ، وقالوا له : غبت عن بدر ، وهربت يوم أحد ، ولم تشهد بيعة الرضوان . والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى " .
فالجواب [2] : أما قوله " وخالفه المسلمون [ كلهم ] حتى قتل " [3] .
فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله ، أو أنهم [ كلهم ] أمروا بقتله ، ورضوا بقتله ، وأعانوا على قتله [4] . فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب ، فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة .
قال ابن الزبير : " لعنت قتلة عثمان ، خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية ، فقتلهم الله كل قتلة ، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب " يعني هربوا ليلا ، وأكثر المسلمين كانوا غائبين ، وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه .
وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله ، أو في كل ما أنكر عليه ، فهذا [ أيضا ] [5] كذب . فما من شيء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه [ ص: 297 ] كثير من المسلمين ، بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة ، والذين وافقوا عثمان [6] على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه : إما في كل الأمور ، وإما في غالبها . وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور ، وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان ، وبعضه يكون فيه مجتهدا ، ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا : إما مصيبا وإما مخطئا .
وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون ، بل ظالمون باغون معتدون . وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له ، فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما .
والذي قال [7] له : غبت عن بدر وبيعة الرضوان ، وهربت يوم أحد ، قليل جدا من المسلمين . ولم يعين منهم [8] إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك . وقد أجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال ، وقالوا : يوم بدر غاب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخلفه عن ابنة النبي [9] - صلى الله عليه وسلم - فضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره .
ويوم الحديبية بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عثمان بيده . ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير له من يده لنفسه [10] ، وكانت البيعة [ ص: 298 ] بسببه ، فإنه لما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - [ رسولا ] إلى [ أهل ] مكة [11] بلغه أنهم قتلوه ، فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت ، فكان عثمان شريكا في البيعة ، مختصا بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فامتنع من ذلك ، وقال : حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يرسل [12] عمر ، فأخبره أنه ليس [ له ] [13] بمكة شوكة يحمونه ، وأن عثمان له بمكة بنو أمية ، وهم من أشراف مكة ، فهم يحمونه .
وأما التولي يوم أحد ، فقد قال الله - تعالى - : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ) [ سورة آل عمران : 155 ] فقد عفا الله عن جميع المتولين [14] يوم أحد ، فدخل في العفو من هو دون عثمان ، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته [ ص: 299 ] [15]


