وأما قوله : " إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة ، وهو بدعة ، فصار [1] سنة إلى الآن " .
فالجواب : أن عليا - رضي الله عنه - كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله . ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان ، كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان ، بل أمر بعزل معاوية وغيره . ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك [ ومقاتلتهم التي عجز عنها ، فكان على إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه ] [2] .
فإن قيل : كان الناس لا يوافقونه على إزالتها .
قيل : فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها ، حتى الذين قاتلوا مع علي ، كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين . وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم ، وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر [ ص: 291 ] هذا [3] ومنهم من لا ينكره ، كان ذلك من مسائل الاجتهاد ، ولم يكن [4] هذا مما يعاب به عثمان .
وقول القائل : هي بدعة . إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك ، فكذلك قتال أهل القبلة بدعة ، فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي . وأين قتال أهل القبلة من الأذان ؟ !
فإن قيل : بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي .
قيل لهم : فمن أين [5] لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي ؟ وأن [6] عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي ؟
[ وأيضا ] فإن علي [ بن أبي طالب ] - رضي الله عنه - [7] أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع ، فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلى في المصر إلا جمعة واحدة ، ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد . والجمعة كانوا يصلونها في المسجد ، والعيد يصلونه بالصحراء . وكان [8] النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة ، وفي العيد بعد الصلاة . واختلف عنه في الاستسقاء .
فلما كان على عهد علي قيل له : إن بالبلد [9] ضعفاء لا يستطيعون [ ص: 292 ] الخروج إلى المصلى ، فاستخلف عليهم رجلا صلى [10] بالناس بالمسجد . قيل : إنه صلى ركعتين بتكبير ، وقيل : بل صلى أربعا بلا تكبير .
وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ، ولم يرو عن علي [11] أنه أنكر ذلك .
وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده : أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ، كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد .
وأما ما سنه علي من إقامة عيدين [12] فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال . قيل : إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد ، كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة ، لأنه السنة . وقيل : بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة ، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين . لكن قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة . وقالوا : إنها تصلى في الحضر والسفر [13] . وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين . وقيل : بل يجوز عند الحاجة أن تصلى جمعتان في المصر ، كما صلى علي عيدين للحاجة . وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه ، وأكثر أصحاب أبي حنيفة ، وأكثر المتأخرين من [ ص: 293 ] أصحاب الشافعي . وهؤلاء يحتجون بفعل علي [ بن أبي طالب ] [14] لأنه من الخلفاء الراشدين .
وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار ، واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة . وكان ذلك في خلافة علي ، وكان ابن عباس نائبه بالبصرة . فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه ، كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه . وآخرون من العلماء ، كمالك وغيره ، لا يتبعون عليا فيما سنه ، وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه . فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه - وهذا حاله - فلأن يقدح في علي فيما سنه - وهذا حاله - بطريق الأولى .
وإن قيل بأن ما فعله علي سائغ لا يقدح فيه ، لأنه باجتهاده ، أو لأنه سنة يتبع فيه ، فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى .
ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله [15] عمر ، مثل تضعيف الصدقة ، التي هي جزية في المعنى ، على نصارى بني تغلب ، وأمثال ذلك .
ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ، ولم ينكروه عليه ، واتبعه [16] المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة ، وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ولا نقل [17] أحد أن النبي - صلى الله عليه [ ص: 294 ] وسلم ] - [18] أمر بذلك في الأذان ، وهو قولهم : " حي على خير العمل " .
وغاية ما ينقل إن صح النقل ، أن بعض الصحابة ، كابن عمر - رضي الله عنهما - ، كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد ، كما كان بعضهم يقول بين النداءين : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، وهذا يسمى نداء الأمراء ، [ وبعضهم يسميه التثويب ] [19] ورخص [20] فيه بعضهم ، وكرهه أكثر العلماء ، ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة [21] ذلك .
ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان ، الذي كان يؤذنه بلال [22] وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وأبو محذورة [23] بمكة ، وسعد القرظ في قباء ، لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي . ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه ، كما نقلوا ما هو أيسر منه . فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة ، علم [24] أنها بدعة باطلة .
وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم ، ومنه تعلموا الأذان ، وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد : مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، ومسجد قباء . وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة .
[ ص: 295 ] ومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية ، كقوله : ( وأرجلكم ) ونحو ذلك . ولا شيء أشهر في [25] شعائر الإسلام من الأذان ، فنقله أعظم من نقل [ سائر ] [26] شعائر الإسلام .
وإن قيل : فقد اختلف في صفته [27] .
قيل : بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ، ولا ريب أن تعليم [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] أبا محذورة [28] الأذان [29] ، وفيه الترجيع ، والإقامة مثناة كالأذان . ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، ولم يكن في أذانه ترجيع . فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ، ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب ، وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا .
وهذا مثل أنواع التشهدات [30] المنقولات . ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالا [31] . وأما الترجيع فهو يقال سرا . وبعض الناس يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه ، لا أنه من الأذان . فقد اتفقوا على [ ص: 296 ] أنه لقنه أبا محذورة ، فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف .


