[ ص: 300 ] فصل
قال الرافضي [1] : " وقد ذكر وهو من الشهرستاني [2] أشد المتعصبين على الإمامية ، أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - [3] . فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه [4] بإسناده إلى البخاري قال : " ابن عباس [5] .
فقال عمر : إن الرجل [6] ليهجر ، حسبنا كتاب الله . وكثر اللغط . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع " . لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذي توفي فيه فقال : ائتوني بدواة وقرطاس ، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده
الجواب : أن يقال : ما ينقله وأمثاله من المصنفين في الملل والنحل ، عامته مما ينقله بعضهم عن بعض ، وكثير من ذلك لم يحرر فيه [ ص: 301 ] أقوال المنقول عنهم ، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله ، بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله ، مثل الشهرستاني أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة ، المتهمين في كثير مما ينقلونه [7] ، ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة . وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة .
ولهذا تجد [8] نقل أصح من نقل هؤلاء ; لأنه أعلم بالمقالات ، وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها ، مع أنه يوجد في نقله ، ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم ، من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم . حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض ، فإنه يوجد فيها غلط كثير ، وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذب ، بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه الأشعري [9] ، بل هو معظم له أو متبع له [10] .
، ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده ، بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب اتباعه ، ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه
[ ص: 302 ] ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي ، فمعلوم أن كثيرا ممن [11] ينقل ذلك لم يتعمد الكذب ، لا هذا ولا نحوه ، لكن وقع إما تعمدا للكذب [12] من بعضهم ، وإما غلطا [13] وسوء حفظ ، ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم ، فإن . الهوى يعمي ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقه ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده
وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة ، فإن رءوس مذهبهم وأئمته الذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة ، كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم .
وهذا ظاهر لمن تأمله ، بخلاف قول الخوارج ، فإنه كان عن جهل بتأول القرآن ، وغلو في تعظيم الذنوب . وكذلك قول الوعيدية والقدرية ، كان عن تعظيم الذنوب . وكذلك قول المرجئة ، كان أصل مقصودهم نفي التكفير عمن صدق الرسل . ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون ، بخلاف الرافضة ، فإن رءوسهم كانوا كذلك ، مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا ، بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ، ومنهم من هو مخطئ يغفر له خطاياه ، ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله ، لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث [ ص: 303 ] شامل لهم كلهم ، فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين .
وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون ، مرادهم إفساد [14] دين الإسلام . وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ، ورأيت أقوال أولئك [15] ، فرأيت فيها اختلافا كثيرا .
وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب ، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ، ويتعذر على بعضهم .
ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ، ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه . ونفس ما بعث الله به رسوله ، وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس ، لا ينقلونه ، [ لا ] [16] تعمدا منهم لتركه ، بل لأنهم لم يعرفوه ، بل ولا سمعوه ، لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين .
وكتاب " المقالات " أجمع هذه الكتب وأبسطها ، وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها . وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم ، وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم . وجاء بعده من أتباعه - للأشعري كابن فورك [17] - من لم يعجبه ما نقله عنهم ، فنقص [ ص: 304 ] من ذلك وزاد ، مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة ، قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك [18] الإطلاق ، لا لفظا ولا معنى ، بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل [19] في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته ، وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ، ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات .
قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة ، يعرفها من يعرف مقالات الناس ، مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا ، لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع . ولهذا لما كان خبيرا بقول والشهرستاني الأشعرية وقول ونحوه من الفلاسفة ، كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وأئمة السنة والحديث ، فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم ، بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها ابن سينا [20] بالأسانيد المعروفة ، وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل .
ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل [ ص: 305 ] عنهم ، وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم . وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات[21] والمقاطيع وغيرهما ، مما فيه صحيح وضعيف .
وإذا كان كذلك [ فنقول : ] [22] ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر ، من محاسن الصحابة وفضائلهم ، لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع ، وبعضها محرف [23] ، وبعضها لا يقدح فيما علم ، فإن اليقين لا يزول بالشك ، ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا ، وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من [24] أدلة العقل ، من أن . الصحابة - رضي الله عنهم - أفضل الخلق بعد الأنبياء ، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها ؟ !