الوجه الثالث : أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها ، وقد ثبت في الصحيح أنه قال في مرضه : " لعائشة كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي " . ثم قال : " يأبى الله والمؤمنون إلا لأبي بكر أبا بكر " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب [1] فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا ، فقال : " ماله أهجر ؟ عمر [2] " فشك هل هذا القول من هجر الحمى أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى ، أو هذا مما خفي على عمر كما خفي عليه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أنكره ، ثم قال بعضهم هاتوا كتابا ، وقال بعضهم : لا تأتوا بكتاب . فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ، لأنهم يشكون : هل أملاه مع تغيره بالمرض ؟ أم مع سلامته من ذلك ؟ فلا يرفع النزاع فتركه . عمر
ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك [ ص: 316 ] الوقت ، إذ لو كان كذلك لما ترك - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله به ، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة ، ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع . وقد سأل ربه لأمته ثلاثا ، فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة . سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها ، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها ، و أبي بكر [3] سأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها [4] .
وهذا ثبت في الصحيح . وقال : " الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب الكتاب " ابن عباس [5] .
فإنها رزية ، أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة - رضي الله عنه - وطعنوا فيها . أبي بكر
قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من وابن عباس الخوارج والروافض ونحوهم . وإلا كان يفتي بما في كتاب الله ، فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله ، فإن لم يجد في سنة رسول الله - صلى [ ص: 317 ] الله عليه وسلم - فبما أفتى فابن عباس أبو بكر . وهذا ثابت من حديث وعمر عن ابن عيينة عبد الله بن أبي يزيد عن . ابن عباس
ومن عرف حال علم أنه كان يفضل ابن عباس أبا بكر على وعمر - رضي الله عنه - . علي
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك كتابة الكتاب باختياره ، فلم يكن في ذلك نزاع ، ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه .
ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه . والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير ، حتى أنزل فيه : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) [ سورة الحجرات : 9 ] ، لكن روي أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال [6] .
ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي ، وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه . ولا [ في ] [ ص: 318 ] شيء [7] من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل خليفة . كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة عليا . ثم يدعون مع هذا أنه كان أبي بكر [8] قد نص على خلافة نصا جليا قاطعا للعذر ، فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب ، وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب ، فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا ؟ . علي