الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله [1] : " الخلاف الثاني : الواقع في مرضه [2] : أنه قال جهزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عنه . فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز [3] ، وقال قوم : قد اشتد مرضه ، ولا يسع [4] قلوبنا المفارقة " .

                  فالجواب [5] : " أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : " لعن الله من تخلف عنه " ولا نقل هذا بإسناد ثبت ، بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ، ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج ، بل كان أسامة [ ص: 319 ] هو الذي توقف في الخروج ، لما خاف أن يموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : كيف أذهب وأنت هكذا ، أسأل عنك الركبان ؟ فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقام . ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعه ، ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه ، وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه .

                  وأبو بكر - رضي الله عنه - لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم ، لكن روي أن عمر كان فيهم ، وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه ، فأذن له ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : والله لا أحل راية عقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - . وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر - رضي الله عنه - في أول خلافته ولم يكن في شيء من ذلك نزاع مستقر أصلا [6] .

                  والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين . ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ، ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول [ ص: 320 ] الكبار ، لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام ، وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات ، وتلك فيها أكاذيب كثيرة [7] من جنس ما في التواريخ .

                  ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر ، وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا . وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة ، وأعظم الناس تعمدا للكذب ، وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، والناس كلهم حاضرون ، ولو ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس من ولاه لأطاعوه ، وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله ، وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا .

                  ولو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلف عليا في الصلاة : هل كان يمكن أحدا أن يرده ؟ ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ؟ ولو قال لأصحابه : هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي ، هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ؟ .

                  ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ليس فيهم من يبغض عليا ، ولا من قتل علي أحدا من أقاربه .

                  وقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح في عشرة آلاف : سليم ألف ، ومزينة ألف ، وجهينة ألف ، وغفار ألف ، ونحو ذلك . والنبي - [ ص: 321 ] صلى الله عليه وسلم - يقول : " أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها " [8] ، ويقول : " قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالي دون الناس ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله " [9] .

                  وهؤلاء لم يقتل علي أحدا منهم ، ولا أحدا من الأنصار . وقد كان عمر - رضي الله عنه - أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من علي ، فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة . وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته ، أعظم من نفورهم عن علي ، حتى كره بعضهم تولية أبي بكر له ، وراجعوه لبغض النفوس للحق ، لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، فلم [ ص: 322 ] يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ونص عليه ، وتقديم من يريد تأخيره وحرمانه .

                  ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما ، لقال للناس : لا تبايعوهما . فيا ليت شعري ممن كان يخاف الرسول ؟ فقد نصره الله وأعزه ، وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا .

                  وقد أنزل الله سورة براءة ، وكشف فيها حال المنافقين ، وعرفهم المسلمين ، وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته .

                  وأبو بكر وعمر كانا [10] أقرب الناس عنده ، وأكرم الناس عليه ، وأحبهم إليه ، وأخصهم به ، وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا ، وأعظمهم موافقة له ومحبة له ، وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه . فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين ؟ ، الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة .

                  بل قال الله تعالى : ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ) [ سورة الأحزاب : 60 ، 61 ] فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا .

                  هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية