الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قال الرازي :

                  ( البرهان التاسع : هو أن الشيء حال اعتبار وجوده من حيث هو موجود واجب الوجود لامتناع عدمه مع وجوده [1] ، وكذلك هو في حال عدمه واجب العدم لامتناع كونه موجودا معدوما [2] ، والحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين ، فإذا كانت الماهية . [3] [ في كلتا الحالتين ] [4] [ ص: 286 ] على كلتا الصفتين واجبة ، فالماهية من حيث هي واجبة غير مفتقرة إلى مؤثر ، فإن الواجب [5] من حيث هو واجب يمتنع استناده [6] إلى المؤثر ، فإذن [7] الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة ، فإن لم [8] تعتبر الماهية من حيث هي هي لم يرتفع الوجوب ، أي وجوب الوجود في زمنه ، ووجوب العدم في زمنه ، وهو بهذا الاعتبار [ لا ] [9] يحتاج إلى المؤثر ، فعلمنا أن الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة ، وإنما المحوج هو الإمكان ) .

                  والجواب : أن في هذه الحجة مغالطات متعددة ، وجوابها من وجوه ، أحدها : أن يقال : هب أنه في حال وجوده واجب الوجود لكنه واجب الوجود بغيره ، وذلك [ لا ] [10] يناقض كونه مفتقرا إلى الفاعل مفعولا له محدثا بعد أن لم يكن ، فإذا [11] لم يكن هذا الوجوب مانعا مما [12] يستلزم افتقاره إلى الفاعل لم يمتنع كونه مفتقرا إلى الفاعل مع هذا الوجوب .

                  الثاني : أن قوله : ( الحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين ) يقال له : الحدوث يتضمن هاتين الحالتين ، وهو يتضمن مع ذلك أنه وجد بفاعل أوجده هو مفتقر إليه لا يوجد بدون إيجاده له بعد أن لم يكن [ ص: 287 ] موجودا ، فالحدوث يتضمن هذا المعنى ، أو يستلزمه ، وإذا كان الحدوث متضمنا للحاجة إلى الفاعل ، [ أو ] [13] مستلزما للحاجة إلى الفاعل لم يجز أن يقال : هو مانع عن الحاجة ، فإن الشيء لا يمنع لازمه [14] ، وإنما يمنع ضده .

                  الثالث : قوله : ( الواجب من حيث هو [15] واجب يمتنع استناده إلى المؤثر ) ممنوع ، بل الواجب بنفسه هو الذي يمتنع استناده [16] إلى المؤثر ، وأما الواجب بغيره ، فلا يمتنع استناده إلى المؤثر ، بل نفس كونه واجبا بغيره يتضمن استناده إلى المؤثر ، ويستلزم ذلك ، فكيف يقال : إن الوجوب بالغير يمنع الاستناد إلى الغير .

                  وإن قال : أنا أريد الواجب من حيث هو واجب مع قطع النظر عن كونه واجبا بنفسه أو بغيره .

                  قيل له : ليس في الخارج إلا واجب بنفسه ، أو بغيره ، وإذا أخذ مطلقا عن القيدين [17] ، فهو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان .

                  ثم يقال : لا نسلم أن الواجب إذا أخذ مطلقا يمتنع استناده إلى المؤثر ، بل الواجب إذا أخذ مطلقا لا يستلزم المؤثر ، [ ولا ينفي ( * المؤثر ] [18] ، فإن من الواجب ما يستلزم المؤثر ، وهو الواجب بغيره ، ومنه ما ينفيه ، وهو * ) [19] الواجب [ ص: 288 ] بنفسه ، وصار هذا كاللون إذا أخذ مجردا لا يستلزم السواد ، ولا ينفيه ، والحيوان إذا أخذ مجردا لا يستلزم النطق . ولا ينفيه ، وكذلك سائر المعاني العامة التي تجري مجرى الأجناس إذا أخذت مع قطع النظر عن بعض الأنواع لم تكن [20] مستلزمة لذلك ، ولا مانعة منه .

                  الرابع : أن قول القائل : ( الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة إلى المؤثر ) [21] مما يعلم فساده ببديهة العقل ، والعلم بفساد ذلك أظهر من العلم بفساد قول من يقول الإمكان من حيث هو إمكان مانع عن الحاجة إلى المؤثر ، فإن علم الناس بأن ما حدث بعد أن لم يكن لا بد له من محدث أظهر ، وأبين من علمهم بأن ما قبل [22] الوجود والعدم لا بد له من مرجح ، فإذا كانت الحجة النافية لهذا سوفسطائية ، فتلك أولى أن تكون سوفسطائية .

                  الخامس : أن هذه الحجة مبنية على أن في الخارج ماهية غير الوجود الحاصل في الخارج ، وأنه [23] يعتقب عليها الوجود والعدم ، وهذا ممنوع وباطل .

                  السادس : أنه لو سلم ذلك ، فالماهية من حيث هي هي لا تستحق وجودا ولا عدما ، ولا تفتقر إلى فاعل ، فإن من يقول ذلك يقول الماهيات غير مجعولة وأن [24] المجعول اتصافها [25] بالوجود ، وإنما تفتقر إلى الفاعل إذا كانت [ ص: 289 ] موجودة ، وإذا كانت موجودة فوجودها واجب فعلم أن افتقارها إلى الفاعل في حال وجوب وجودها بالغير [26] ، لا في الحال التي لا تستحق فيها وجودا ولا عدما .

                  السابع : أنه لو سلم أن هذه الماهية ثابتة في الخارج ، وإنما هي من حيث [27] هي هي مفتقرة إلى المؤثر ، فليس في هذا ما يدل على وجوب كونها أزلية ، بل ولا على إمكان ذلك ، وإذا لم يكن فيه ما يدل على ذلك لم يمتنع أن يكون هذا الافتقار لا يثبت لها إلا مع الحدوث ، ولكون الحدوث شرطا في هذا الافتقار [28] .

                  الثامن : أنا إذا سلمنا أن علة الافتقار إلى الفاعل هو الإمكان ، فالإمكان الذي يعقله الجمهور إمكان أن يوجد الشيء ، وإمكان أن يعدم الشيء [29] ، وهذا الإمكان ملازم للحدوث ، فلا يعقل إمكان كون الشيء قديما أزليا واجبا بغيره ، وهو مع ذلك يفتقر إلى الفاعل ، وهذا هو [30] الذي يدعونه .

                  التاسع : أنهم إذا جعلوا الوجوب مانعا من الاستناد إلى الغير ، وإن كان وجوبا حادثا ، فالوجوب القديم الأزلي [31] أولى أن يكون مانعا من الاستناد إلى الغير ، والأفلاك عندهم واجبة الوجود أزلا وأبدا ، ووجوب ذلك [ ص: 290 ] بغيرها ، فإذا كان هذا الوجوب لازما [32] للماهية ، والوجوب مانع من الافتقار إلى الغير كان لازم الماهية مانعا لها من الافتقار ، فلا تزال الماهية القديمة ممنوعة من الافتقار إلى الغير [33] ، فيلزم أن لا تفتقر إلى الغير أبدا ، وهذا هو الذي يقوله جماهير العقلاء ، وأن ما كان قديما [34] يمتنع أن يكون مفعولا .

                  العاشر : أنه إذا قدر أن الإمكان هو المحوج إلى الغير [35] المؤثر ، فالتأثير هو جعل الشيء موجودا وإبداع وجوده جعل [36] ما يمكن عدمه موجودا لا يعقل إلا بإحداث وجود له بعد أن لم يكن ، وإلا فما كان وجوده واجبا أزليا يمتنع عدمه لا يعقل حاجته إلى من يجعله موجودا ، وإذا قالوا : هو واجب الوجود أزلا وأبدا [37] يمتنع عدمه ، وقالوا مع ذلك : إن غيره هو الذي أبدعه ، وجعله موجودا ، وإنه يمكن وجوده وعدمه ، فقد جمعوا في كلامهم من التناقض أعظم مما يذكرونه عن [38] غيرهم .

                  الحادي عشر : أنه لو كان مجرد الإمكان مستلزما للحاجة إلى الفاعل لكان كل ممكن موجودا ، كما أنا إذا قلنا : الحدوث هو المحوج إلى المؤثر كان كل محدث موجودا ; لأن [39] المحتاج إلى الفاعل إنما يحتاج إليه إذا فعله الفاعل ، وإلا فبتقدير أن لا يفعله لا حاجة به إليه ، وإذا فعله الفاعل لزم [ ص: 291 ] وجوده ، فيلزم وجود كل ممكن ، وهو معلوم الفساد بضرورة [ العقل ] [40] .

                  فإن قيل : المراد أن [41] الممكن لا يوجد إلا بفاعل قيل : فيكون الإمكان مع الوجود يستلزم الحاجة إلى الفاعل ، وحينئذ فيحتاجون إلى بيان أنه يمكن كون [42] وجود الممكن أزليا ، وأن الفاعل يمكنه أن يكون مفعوله المعين أزليا ، وهذا إذا أثبتموه لم تحتاجوا إلى ما تقدم ، فإنه لا تثبت حاجة الممكن إلى الفاعل إلا في حال وجوده فعلم أن الاستدلال بمجرد الإمكان باطل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية