الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع عشر [1] : أن يقال : إما أن يجب وجود المعصوم في كل زمان ، أن لا يجب فإن لم يجب ؛ بطل قولهم . وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن عليا كان هو المعصوم دون الثلاثة . بل إذا كان هذا القول حقا ، لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين ، فإن أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر ، وأنهما أحق بالعصمة من علي ، فإن كانت العصمة ممكنة ، فهي إليهما أقرب . وإن كانت ممتنعة ، فهي عنه أبعد .

                  وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة علي دون أبي بكر وعمر ، وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة ، إلا مع انتفائها عن علي . فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي ، فهذا ليس قول أحد من أهل السنة .

                  وهذه كنبوة موسى وعيسى ، فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد ، وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد ، بل المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض ، وأن من كفر بنبوة محمد وأقر بأحد هذين ، فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين .

                  وإذا قيل : إن الإيمان [2] بمحمد مستلزم للإيمان بهما ، وكذلك [ ص: 434 ] الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد . وهكذا نفي العصمة ، وثبوت الإيمان والتقوى ، وولاية الله . فأهل السنة لا يقولون بإيمان علي وتقواه وولايته لله ، إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله . ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي . ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم .

                  وإذا قال الرافضي لهم : الإيمان ثابت لعلي بالإجماع ، والعصمة [3] منتفية عن الثلاثة بالإجماع ، كان كقول اليهودي : نبوة موسى ثابتة بالإجماع ، أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع . والمسلم يقول : نفي الإلهية عن محمد وموسى كنفيها [4] عن المسيح ، فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح ، وإذا قال النصراني : اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة ، وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ، ولم يدع [ ذلك ] [5] إلا في المسيح ، كان كتقرير الرافضي أنه لا بد من إمام معصوم ، ولم يدع ذلك إلا لعلي .

                  ونحن نعلم بالاضطرار ( * أنه ليس لعيسى [6] مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد ، كما يعلم بالاضطرار * ) [7] أن عليا لم [ يكن له ] مزية [8] يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر وعمر ، ومن أراد التفريق منعناه [9] ذلك ، وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء .

                  [ ص: 435 ] وإذا قال : أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة .

                  قلنا : نعتقد انتفاء العصمة عن علي ، ونعتقد أن [10] انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره [11] ، وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة ، فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا .

                  وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة ؛ لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما . فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ، ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير .

                  وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة ، وهو أن يقال : من أين علمتم أن عليا معصوم ، ومن سواه ليس بمعصوم . فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة علي وانتفاء عصمة غيره [12] كما ذكروه من حجتهم .

                  قيل لهم : إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة ، وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون [13] بالإجماع ، ويردون كون الإجماع حجة ، فمن أين علموا أن عليا هو المعصوم دون من سواه ؟

                  فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته ، كان القول في ذلك [ ص: 436 ] كالقول في تواتر النص على إمامته ، وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر . الجواب الرابع [14] : أن يقال : الإجماع عندهم ليس بحجة ، إلا أن يكون قول المعصوم فيه ، فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور ، فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ، ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم ، فلا يثبت واحد منهما .

                  فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم . [ وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون ، فإن الإجماع عندهم ليس بحجة ، بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم ، فإن قول المعصوم ] [15] وحده هو الحجة ، فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل [16] ، حتى يعلم أن قوله حجة . فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم ، فيصير هذا مصادرة على المطلوب ، ويكون حقيقة قولهم : فلان معصوم ; لأنه قال إني معصوم . فإذا قيل لهم : بم عرفتم أنه معصوم ، وأن من سواه ليسوا معصومين ؟

                  قالوا : بأنه قال أنا [17] معصوم ، ومن سواي [18] ليس بمعصوم . وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله ، فلا يكون حجة .

                  وصار هذا كقول القائل : أنا صادق في كل ما أقوله ، فإن لم يعلم صدقه بغير قوله ، لم يعلم صدقه فيما يقوله .

                  [ ص: 437 ] وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية ، فإنهم يدعون إلى [19] الإمام المعلم المعصوم ، ويقولون : إن [20] طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم .

                  وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة ، فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت [21] بالنبوة ، ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ : فقالوا : لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية [22] من المعصوم .

                  وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن ، يقرون بالنبوات [23] في الظاهر والشرائع ، ويدعون [24] أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه [25] الناس منها ، ويقولون بسقوط العبادات [26] وحل المحرمات للخواص الواصلين ، فإن لهم طبقات في الدعوة ، ليس هذا موضعها .

                  وإنما المقصود أن كلتا [27] الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول ، لكن الاثني عشرية يجعلون المعصوم أحد الاثني عشر ، وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها ، وهؤلاء ملاحدة كفار .

                  [ ص: 438 ] والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن ، إلا من كان منهم ملحدا ، فإن كثيرا من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم : إما متفلسف ملحد ، وإما غير ذلك .

                  ومن الناس من يقول : إن صاحب هذا الكتاب ليس هو [28] في الباطن على قولهم ، وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب ، لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية . وهذا يقوله [29] غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه .

                  والأشبه أنه وأمثاله [30] حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ، ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب . ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ، ويعظم شيوخ الإمامية . ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه ، وتقول : إنه ليس على طريق الإمامية .

                  وهكذا أهل كل دين : تجد فضلاءهم في الغالب ، إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق ، وإما أن يصيروا ملاحدة ، مثل كثير من علماء النصارى ، هم في الباطن زنادقة ملاحدة ، وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام ، وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى .

                  فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة ، فالكلام في تعينه . فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه ، وما الدليل على أن هذا هو [31] [ ص: 439 ] المعصوم دون غيره ، لم يأت بحجة أصلا ، وتناقضت أقواله .

                  وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح ، وبنى عليه [32] أنه لا بد من معصوم . وهي أقوال فاسدة ، ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد [33] قول من لم تثبت [34] بعد عصمته : إني معصوم [35] .

                  فإن قيل : إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم ، فإذا قال علي : إني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم [36] ; لأنه لم يدع هذا غيره . قيل لهم : لو قدر ثبوت معصوم في الوجود ، لم يكن مجرد قول شخص : أنا معصوم ، مقبولا ، لإمكان كون [37] غيره هو المعصوم ، وإن لم نعلم نحن دعواه [38] ، وإن لم يظهر دعواه ، بل يجوز أن يسكت عن [39] دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم ، كما جاز للمنتظر أن يخفي نفسه خوفا من الظلمة .

                  وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثني عشر ، وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه ، كما ادعوا مثل ذلك في المنتظر ، فلم لم يبق معهم دليل على التعيين : لا إجماع ولا دعوى .

                  [ ص: 440 ] ومع هذا كله [40] بتقدير دعوى علي العصمة ، فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك ، وحاشاه من ذلك .

                  وهذا جواب خامس [41] وهو أنه إذا لم تكن [42] الحجة على العصمة إلا قول المعصوم : إني معصوم ، فنحن راضون بقول علي في هذه المسألة ، فلا يمكن أحد [43] أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك ، بل النقول المتواترة عنه تنفي اعتقاده في نفسه العصمة .

                  وهذا جواب سادس ، فإن إقراره لقضاته [44] على أن يحكموا بخلاف رأيه ، دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما .

                  وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن عليا قال : " اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن . وقد رأيت الآن أن يبعن " . فقال له عبيدة السلماني قاضيه : " رأيك مع عمر [ في الجماعة ] [45] أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة " .

                  وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره ، وعلي يقره على ذلك . وكان يقول : " اقضوا كما كنتم تقضون " . وكان يفتي ويحكم باجتهاده ، ثم يرجع عن ذلك باجتهاده ، كأمثاله من الصحابة . وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة .

                  [ ص: 441 ] ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر وعثمان . وقد جمع الشافعي من ذلك كتابا فيه خلاف علي وابن مسعود ، لما كان أهل العراق يناظرونه في المسألة ، فيقولون : قال علي وابن مسعود ويحتجون بقولهما . فجمع الشافعي كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول علي وابن مسعود [46] ، وجمع بعده [47] محمد بن نصر المروزي [48] كتابا أكبر من ذلك بكثير [49] ذكره [50] في مسألة رفع اليدين في الصلاة ، لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود [51] .

                  وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة ، كأصحاب أبي حنيفة : محمد بن الحسن وأمثاله ، فإن [52] أكثر مناظرة الشافعي كانت مع محمد بن الحسن وأصحابه ، لم يدرك أبا يوسف ، ولا ناظره ، ولا سمع منه ، بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق ، توفي سنة ثلاث وثمانين [53] وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ، ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال أبي يوسف عن محمد بن الحسن عنه .

                  [ ص: 442 ] وهؤلاء الرافضة في [54] احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيره احتجاجا لقولهم [55] بقولهم ، وإثبات الجهل بالجهل .

                  ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم : أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين ، وكان أحد القولين يعرف قائله ، والآخر لا يعرف قائله ، فالصواب عندهم القول الذي لا يعرف قائله . قالوا [56] : لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم !

                  ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف [57] أنه قاله ، كما لم يعرف [58] أنه قاله الآخر . ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعرف وأن غيره قاله ، كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره ، وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول ، بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس ؟ فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته ، كما قالوا هنا : عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته ، وكما [59] جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم . وهذا [60] حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله ; فإنه يقع في ظلمات البدع ، ظلمات بعضها فوق بعض .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية