الوجه الرابع عشر [1] : أن يقال : إما أن يجب وجود المعصوم في كل زمان ، أن لا يجب فإن لم يجب ؛ بطل قولهم . وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن كان هو المعصوم دون الثلاثة . بل إذا كان هذا القول حقا ، لزم أن يكون عليا أبو بكر وعمر معصومين ، فإن وعثمان أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر ، وأنهما أحق بالعصمة من وعمر ، فإن كانت العصمة ممكنة ، فهي إليهما أقرب . وإن كانت ممتنعة ، فهي عنه أبعد . علي
وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة دون علي أبي بكر ، وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة ، إلا مع انتفائها عن وعمر . فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي ، فهذا ليس قول أحد من علي أهل السنة .
وهذه كنبوة موسى وعيسى ، فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد ، وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد ، بل المسلمون متفقون على ، وأن من كفر بنبوة كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض محمد وأقر بأحد هذين ، فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين .
وإذا قيل : إن الإيمان [2] بمحمد مستلزم للإيمان بهما ، وكذلك [ ص: 434 ] الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد . وهكذا نفي العصمة ، وثبوت الإيمان والتقوى ، وولاية الله . فأهل السنة لا يقولون بإيمان وتقواه وولايته لله ، إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله . ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي . ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم . علي
وإذا قال الرافضي لهم : الإيمان ثابت بالإجماع ، والعصمة لعلي [3] منتفية عن الثلاثة بالإجماع ، كان كقول اليهودي : نبوة موسى ثابتة بالإجماع ، أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع . والمسلم يقول : نفي الإلهية عن محمد وموسى كنفيها [4] عن المسيح ، فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح ، وإذا قال النصراني : اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة ، وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ، ولم يدع [ ذلك ] [5] إلا في المسيح ، كان كتقرير الرافضي أنه لا بد من إمام معصوم ، ولم يدع ذلك إلا . لعلي
ونحن نعلم بالاضطرار ( * أنه ليس لعيسى [6] مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد ، كما يعلم بالاضطرار * ) [7] أن لم [ يكن له ] مزية عليا [8] يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر ، ومن أراد التفريق منعناه وعمر [9] ذلك ، وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء .
[ ص: 435 ] وإذا قال : أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة .
قلنا : نعتقد انتفاء العصمة عن ، ونعتقد أن علي [10] انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره [11] ، وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة ، فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا .
وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة ؛ لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما . فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ، ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير .
وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة ، وهو أن يقال : من أين علمتم أن معصوم ، ومن سواه ليس بمعصوم . فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة عليا وانتفاء عصمة غيره علي [12] كما ذكروه من حجتهم .
قيل لهم : إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة ، وإن كان حجة في إثبات عصمة التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون علي [13] بالإجماع ، ويردون كون الإجماع حجة ، فمن أين علموا أن هو المعصوم دون من سواه ؟ عليا
فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته ، كان القول في ذلك [ ص: 436 ] كالقول في تواتر النص على إمامته ، وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر . الجواب الرابع [14] : أن يقال : الإجماع عندهم ليس بحجة ، إلا أن يكون قول المعصوم فيه ، فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور ، فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ، ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم ، فلا يثبت واحد منهما .
فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم . [ وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون ، فإن الإجماع عندهم ليس بحجة ، بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم ، فإن قول المعصوم ] [15] وحده هو الحجة ، فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل [16] ، حتى يعلم أن قوله حجة . فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم ، فيصير هذا مصادرة على المطلوب ، ويكون حقيقة قولهم : فلان معصوم ; لأنه قال إني معصوم . فإذا قيل لهم : بم عرفتم أنه معصوم ، وأن من سواه ليسوا معصومين ؟
قالوا : بأنه قال أنا [17] معصوم ، ومن سواي [18] ليس بمعصوم . وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله ، فلا يكون حجة .
وصار هذا كقول القائل : أنا صادق في كل ما أقوله ، فإن لم يعلم صدقه بغير قوله ، لم يعلم صدقه فيما يقوله .
[ ص: 437 ] وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية ، فإنهم يدعون إلى [19] الإمام المعلم المعصوم ، ويقولون : إن [20] طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم .
وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة ، فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت [21] بالنبوة ، ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ : فقالوا : لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية [22] من المعصوم .
وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن ، يقرون بالنبوات [23] في الظاهر والشرائع ، ويدعون [24] أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه [25] الناس منها ، ويقولون بسقوط العبادات [26] وحل المحرمات للخواص الواصلين ، فإن لهم طبقات في الدعوة ، ليس هذا موضعها .
وإنما المقصود أن كلتا [27] الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول ، لكن الاثني عشرية يجعلون المعصوم أحد الاثني عشر ، وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها ، وهؤلاء ملاحدة كفار .
[ ص: 438 ] والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن ، إلا من كان منهم ملحدا ، فإن كثيرا من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم : إما متفلسف ملحد ، وإما غير ذلك .
ومن الناس من يقول : إن صاحب هذا الكتاب ليس هو [28] في الباطن على قولهم ، وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب ، لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية . وهذا يقوله [29] غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه .
والأشبه أنه وأمثاله [30] حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ، ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب . ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وأمثالهما ، ويعظم شيوخ وابن سينا الإمامية . ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه ، وتقول : إنه ليس على طريق الإمامية .
وهكذا أهل كل دين : تجد فضلاءهم في الغالب ، إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق ، وإما أن يصيروا ملاحدة ، مثل كثير من علماء النصارى ، هم في الباطن زنادقة ملاحدة ، وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام ، وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى .
فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة ، فالكلام في تعينه . فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه ، وما الدليل على أن هذا هو [31] [ ص: 439 ] المعصوم دون غيره ، لم يأت بحجة أصلا ، وتناقضت أقواله .
وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح ، وبنى عليه [32] أنه لا بد من معصوم . وهي أقوال فاسدة ، ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد [33] قول من لم تثبت [34] بعد عصمته : إني معصوم [35] .
فإن قيل : إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم ، فإذا قال : إني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم علي [36] ; لأنه لم يدع هذا غيره . قيل لهم : لو قدر ثبوت معصوم في الوجود ، لم يكن مجرد قول شخص : أنا معصوم ، مقبولا ، لإمكان كون [37] غيره هو المعصوم ، وإن لم نعلم نحن دعواه [38] ، وإن لم يظهر دعواه ، بل يجوز أن يسكت عن [39] دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم ، كما جاز للمنتظر أن يخفي نفسه خوفا من الظلمة .
وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثني عشر ، وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه ، كما ادعوا مثل ذلك في المنتظر ، فلم لم يبق معهم دليل على التعيين : لا إجماع ولا دعوى .
[ ص: 440 ] ومع هذا كله [40] بتقدير دعوى العصمة ، فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك ، وحاشاه من ذلك . علي
وهذا جواب خامس [41] وهو أنه إذا لم تكن [42] الحجة على العصمة إلا قول المعصوم : إني معصوم ، فنحن راضون بقول في هذه المسألة ، فلا يمكن أحد علي [43] أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك ، بل النقول المتواترة عنه تنفي اعتقاده في نفسه العصمة .
وهذا جواب سادس ، فإن إقراره لقضاته [44] على أن يحكموا بخلاف رأيه ، دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما .
وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن قال : " اجتمع رأيي ورأي عليا في أمهات الأولاد أن لا يبعن . وقد رأيت الآن أن يبعن " . فقال له عمر قاضيه : " رأيك مع عبيدة السلماني [ في الجماعة ] عمر [45] أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة " .
وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره ، يقره على ذلك . وكان يقول : " اقضوا كما كنتم تقضون " . وكان يفتي ويحكم باجتهاده ، ثم يرجع عن ذلك باجتهاده ، كأمثاله من الصحابة . وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة . وعلي
[ ص: 441 ] ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر . وقد جمع وعثمان من ذلك كتابا فيه خلاف الشافعي علي ، لما كان وابن مسعود أهل العراق يناظرونه في المسألة ، فيقولون : قال علي ويحتجون بقولهما . فجمع وابن مسعود كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول الشافعي علي وابن مسعود [46] ، وجمع بعده [47] محمد بن نصر المروزي [48] كتابا أكبر من ذلك بكثير [49] ذكره [50] في مسألة رفع اليدين في الصلاة ، لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود [51] .
وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة ، كأصحاب : أبي حنيفة وأمثاله ، فإن محمد بن الحسن [52] أكثر مناظرة كانت مع الشافعي وأصحابه ، لم يدرك محمد بن الحسن أبا يوسف ، ولا ناظره ، ولا سمع منه ، بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق ، توفي سنة ثلاث وثمانين [53] وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ، ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال عن أبي يوسف عنه . محمد بن الحسن
[ ص: 442 ] وهؤلاء الرافضة في [54] احتجاجهم على أن معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيره احتجاجا لقولهم عليا [55] بقولهم ، وإثبات الجهل بالجهل .
ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم : أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين ، وكان أحد القولين يعرف قائله ، والآخر لا يعرف قائله ، فالصواب عندهم القول الذي لا يعرف قائله . قالوا [56] : لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم !
ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف [57] أنه قاله ، كما لم يعرف [58] أنه قاله الآخر . ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعرف وأن غيره قاله ، كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره ، وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول ، بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس ؟ فهم ، كما قالوا هنا : عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته ، وكما يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته [59] جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم . وهذا [60] حال ، ظلمات بعضها فوق بعض . من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله ; فإنه يقع في ظلمات البدع