الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 306 ] وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول ، فلما قتل عثمان [ بن عفان ] [1] - رضي الله عنه - ، ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين ، مرقت المارقة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق [2] " . وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق .

                  وحدثت أيضا بدعة [3] التشيع كالغلاة المدعين لإلهية علي [4] ، والمدعين النص على علي - رضي الله عنه - [5] السابين لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - [6] ، فعاقب [ أمير المؤمنين ] علي [ رضي الله عنه ] الطائفتين [7] : قاتل المارقين ، وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الإلهية ، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له فقال لهم : ما هذا ؟ فقالوا : [8] أنت هو . قال : من أنا ؟ قالوا : أنت الله الذي لا إله إلا هو . فقال : ويحكم ! [ ص: 307 ] هذا كفر ، ارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم ، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك فأخرهم [9] ثلاثة أيام ؛ لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام ، فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار فخدت [10] عند باب كندة ، وقذفهم في تلك النار ، وروي عنه أنه قال : لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا [11] وقتل هؤلاء واجب باتفاق المسلمين ، لكن [12] في جواز تحريقهم نزاع : فعلي [ رضي الله عنه ] [13] رأى تحريقهم ، وخالفه ابن عباس وغيره [ من الفقهاء ] [14] قال ابن عباس : أما أنا فلو كنت لم أحرقهم ؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " ، وهذا الحديث في صحيح البخاري .

                  [15] وأما السبابة [16] الذين يسبون أبا بكر وعمر فإن عليا لما بلغه ذلك [ ص: 308 ] طلب ابن السوداء [17] الذي بلغه ذلك عنه ، وقيل : إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض [18] قرقيسيا .

                  وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر فروي عنه أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري ، وقد تواتر عنه [19] أنه كان يقول على منبر الكوفة : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر [20] ، روي هذا عنه [21] من أكثر من ثمانين وجها ، ورواه البخاري وغيره [22] ، ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين [23] على تفضيل أبي بكر وعمر كما ذكر ذلك غير واحد .

                  فهاتان البدعتان : بدعة الخوارج والشيعة حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة ، ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية [ ص: 309 ] والمرجئة ، فأنكر ذلك الصحابة والتابعون [24] كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع [25] .

                  ثم إنه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية [26] حدثت بدعة الجهمية منكرة الصفات ، وكان أول من أظهر ذلك [27] الجعد بن درهم ، فطلبه خالد بن عبد الله القسري فضحى به بواسط ، فخطب الناس يوم النحر وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه [28] .

                  ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان ، ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة ، وهؤلاء أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث [ ص: 310 ] العالم بحدوث الأجسام ، [ وأثبتوا حدوث الأجسام ] [29] بحدوث ما يستلزمها من الأعراض ، وقالوا : الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة ، وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ؛ لامتناع حوادث لا أول لها .

                  ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل ، فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل ، فطرد [ إماما هذه الطريقة ] هذا الأصل ، وهما : إمام الجهمية الجهم بن صفوان [30] ، وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة ، وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي .

                  ثم إن جهما قال : إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنة والنار ، وأنه يعدم كل ما سوى الله ، كما كان ما سواه معدوما . وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهمية ، وعدوه من كفرهم ، وقالوا : إن الله تعالى يقول : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) [ سورة ص : 54 ] وقال تعالى : ( أكلها دائم وظلها ) [ سورة الرعد : 35 ] ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة [31] .

                  وأما أبو الهذيل فقال : إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط ، فيمكن بقاء الجنة والنار ، لكن تنقطع الحركات ، فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ، ولا شيء يحدث . ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث ، فيلزم وجود أجسام بلا [ ص: 311 ] حوادث ، فينتقض الأصل الذي أصلوه ، وهو أن الأجسام لا تخلو [32] عن الحوادث .

                  وهذا هو الأصل الذي أصله هشام بن الحكم وهشام بن سالم [33] الجواليقي وغيرهما من المجسمة الرافضة وغير الرافضة [34] كالكرامية ، فقالوا : بل يجوز ثبوت جسم قديم [ أزلي ] [35] لا أول لوجوده ، وهو خال عن جميع الحوادث . وهؤلاء عندهم الجسم القديم الأزلي يخلو عن الحوادث ، وأما الأجسام المخلوقة فلا تخلو عن الحوادث ، ويقولون : ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، لكن لا [36] يقولون : إن كل جسم فإنه لا يخلو عن الحوادث .

                  ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا : إن الرب لا تقوم به الصفات ولا الأفعال [37] فإنها أعراض وحوادث ، وهذه لا تقوم إلا بجسم ، والأجسام محدثة ، فيلزم أن لا يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك من الصفات ، بل جميع [38] ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه .

                  [ ص: 312 ] والجهمية كانوا يقولون : قولنا : إنه يتكلم هو [39] مجاز . والمعتزلة قالوا : إنه [40] متكلم حقيقة ، لكن المعنى واحد . فكان أصل هؤلاء هو [41] المادة التي تشعبت عنها هذه البدع ، فجاء ابن كلاب بعد هؤلاء لما ظهرت المحنة المشهورة ، وامتحن الإمام أحمد [ بن حنبل ] [42] وغيره من أئمة السنة ، وثبت الله الإمام أحمد بن حنبل ، وجرت أمور كثيرة [ معروفة ] [43] ، وانتشر بين الأمة النزاع في هذه المسائل ، قام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري ، وصنف في الرد على الجهمية والمعتزلة مصنفات ، وبين تناقضهم [ فيها ] [44] ، وكشف كثيرا من عوراتهم ، لكن سلم لهم ذلك الأصل الذي هو ينبوع البدع ، فاحتاج لذلك أن يقول : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا نادى موسى حين جاء الطور ، بل ولا يقوم به نداء حقيقي ، ولا يكون [ إيمان ] [45] العباد وعملهم الصالح هو السبب في رضاه ومحبته ، ولا كفرهم هو السبب في سخطه وغضبه ، فلا يكون بعد أعمالهم لا حب ولا رضا ولا سخط ولا فرح ولا غير ذلك مما أخبرت به نصوص الكتاب والسنة .

                  قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ سورة آل عمران : 31 ] [ ص: 313 ] ، وقال [ تعالى ] [46] : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) ) [ سورة محمد : 28 ] ، وقال [ تعالى ] [47] : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) [ سورة الزخرف : 55 ] وقال [ تعالى ] [48] : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) [ سورة الزمر : 7 ] ، وقال [ تعالى ] [49] : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ سورة آل عمران : 59 ] ، وقال [ تعالى ] [50] : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) [ سورة الأعراف : 11 ] .

                  وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى [51] إلا بكلفة ، وهي تبلغ مئين من نصوص القرآن والحديث ، كما ذكرنا طرفا منها في غير هذا الموضع [52] ، وذكرنا كلام السلف والخلف في هذا الأصل ، وذكرنا [53] مذاهب القدماء من الفلاسفة [ أيضا ] [54] وموافقة أساطينهم على هذا الأصل .

                  ثم إنه بسبب ذلك [55] تفرق الناس في مسألة القرآن ، فاحتاج ابن كلاب ومتبعوه إلى أن يقولوا : هو قديم ، وإنه لازم لذات الله ، وإن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته ، وجعلوا جميع ما يتكلم به قديم العين ، لم يقولوا : إنه [ ص: 314 ] يتكلم بمشيئته وقدرته أزلا وأبدا ، وإن كلامه قديم بمعنى أنه قديم النوع ، لم يزل الله متكلما بمشيئته كما قاله [56] السلف والأئمة .

                  ثم قالوا : إنه قديم العين ، وافترقوا [57] على حزبين : حزب قالوا : يمتنع أن يكون القديم هو الحروف والأصوات ؛ لامتناع البقاء عليها وكونها توجد شيئا بعد شيء ؛ لأن المسبوق بغيره لا يكون قديما ، فالقديم هو المعنى ، ويمتنع وجود معان لا نهاية لها في آن واحد ، والتخصيص بعدد دون عدد لا موجب له ، فالقديم معنى واحد هو الأمر بكل مأمور ، والخبر عن كل مخبر ، وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن ، وهو معنى [58] آية الكرسي ، وآية الدين ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وأنكروا أن يكون الكلام العربي كلام الله .

                  والحزب الثاني قالوا : بل الحروف أو الحروف [59] والأصوات قديمة أزلية الأعيان ، وقالوا : الترتيب في ذاتها لا في وجودها ، وفرقوا بين الحقيقة وبين وجود الحقيقة كما يفرق كثير من أهل الكلام بين وجود الرب وبين حقيقته ، وكثير منهم ومن الفلاسفة يفرق بين وجود الممكنات وبين حقيقتها ، وقالوا : الترتيب هو [ في ] [60] حقيقتها لا في وجودها ، بل هي موجودة أزلا وأبدا ، لم يسبق منها شيء شيئا [61] ، وإن كانت حقيقتها [62] [ ص: 315 ] مرتبة ترتيبا عقليا كترتيب الذات على الصفات ، وكترتيب المعلول على العلة كما يقوله المتفلسفة القائلون بقدم العالم حيث قالوا : إن الرب متقدم على العالم بذاته وحقيقته ولم يتقدم عليه تقدما زمانيا ، وقالوا في تقدم بعض كلامه على بعض كما قال هؤلاء في تقدمه على معلوله ، وهؤلاء يجعلون التقدم والتأخر والترتيب نوعين : عقليا ووجوديا ، ويدعون أن ما أثبتوه من الترتيب والتقدم والتأخر هو عقلي لا وجودي .

                  وأما جمهور العقلاء فينكرون هذا ، ويقولون : إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة ، وإن الترتيب والتقدم والتأخر لا يعقل إلا وجود الشيء بعد غيره ، لا يمكن مع كونه معه إلا أن يكون بعده [63] كما يقولون : إن المعلول لا يكون إلا بعد العلة ولا يكون إلا معها ، وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع [ بسطا كبيرا ولكن ذكر هنا ما تيسر ] [64] .

                  والمقصود أن هذه الطريق [65] الكلامية التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة ، وأنكرها سلف الأمة وأئمتها صارت عند كثير من النظار المتأخرين [66] هي دين الإسلام ، بل [67] يعتقدون أن من خالفها فقد خالف دين الإسلام ، مع أنه لم ينطق بما فيها من الحكم ، والدليل لا آية من كتاب الله ، ولا خبرا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أحدا من الصحابة والتابعين [ لهم [ ص: 316 ] بإحسان ] [68] فكيف يكون دين الإسلام ، [ بل أصل أصول دين الإسلام ] [69] مما لم [70] يدل عليه لا كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف ؟ ! .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية