[ ص: 306 ] وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول ، فلما قتل ] عثمان [ بن عفان [1] - رضي الله عنه - ، ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين ، مرقت المارقة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق [2] " . وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق .
وحدثت أيضا بدعة [3] التشيع كالغلاة المدعين لإلهية علي [4] ، والمدعين النص على - رضي الله عنه - علي [5] السابين لأبي بكر - رضي الله عنهما - وعمر [6] ، فعاقب [ أمير المؤمنين ] [ رضي الله عنه ] الطائفتين علي [7] : قاتل المارقين ، وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الإلهية ، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له فقال لهم : ما هذا ؟ فقالوا : [8] أنت هو . قال : من أنا ؟ قالوا : أنت الله الذي لا إله إلا هو . فقال : ويحكم ! [ ص: 307 ] هذا كفر ، ارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم ، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك فأخرهم [9] ثلاثة أيام ؛ لأن ، فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار فخدت المرتد يستتاب ثلاثة أيام [10] عند باب كندة ، وقذفهم في تلك النار ، وروي عنه أنه قال : لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا [11] وقتل هؤلاء واجب باتفاق المسلمين ، لكن [12] في جواز نزاع : تحريقهم [ رضي الله عنه ] فعلي [13] رأى تحريقهم ، وخالفه وغيره [ من الفقهاء ] ابن عباس [14] قال : أما أنا فلو كنت لم أحرقهم ؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ابن عباس " ، وهذا الحديث في صحيح من بدل دينه فاقتلوه . البخاري
[15] وأما السبابة [16] الذين يسبون أبا بكر فإن وعمر لما بلغه ذلك [ ص: 308 ] طلب عليا ابن السوداء [17] الذي بلغه ذلك عنه ، وقيل : إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض [18] قرقيسيا .
وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر فروي عنه أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلني على وعمر أبي بكر إلا ضربته حد المفتري ، وقد تواتر عنه وعمر [19] أنه كان يقول على منبر الكوفة : خير هذه الأمة بعد نبيها ثم أبو بكر عمر [20] ، روي هذا عنه [21] من أكثر من ثمانين وجها ، ورواه وغيره البخاري [22] ، ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين [23] على تفضيل أبي بكر كما ذكر ذلك غير واحد . وعمر
فهاتان البدعتان : الخوارج والشيعة حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة ، ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية [ ص: 309 ] والمرجئة ، فأنكر ذلك الصحابة والتابعون بدعة [24] كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع [25] .
ثم إنه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية [26] حدثت [27] الجعد بن درهم ، فطلبه بدعة الجهمية منكرة الصفات ، وكان أول من أظهر ذلك فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط ، فخطب الناس يوم النحر وقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح ، إنه زعم أن الله تعالى لم يتخذ بالجعد بن درهم إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه [28] .
ثم ظهر بهذا المذهب ، ودخلت فيه بعد ذلك الجهم بن صفوان المعتزلة ، وهؤلاء ، [ وأثبتوا حدوث الأجسام ] أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث [ ص: 310 ] العالم بحدوث الأجسام [29] بحدوث ما يستلزمها من الأعراض ، وقالوا : الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة ، وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ؛ لامتناع حوادث لا أول لها .
ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل ، فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل ، فطرد [ إماما هذه الطريقة ] هذا الأصل ، وهما : إمام الجهمية الجهم بن صفوان [30] ، إمام وأبو الهذيل العلاف المعتزلة ، وقالا . بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي
ثم إن جهما قال : إذا كان الأمر كذلك لزم ، وأنه يعدم كل ما سوى الله ، كما كان ما سواه معدوما . وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على فناء الجنة والنار الجهمية ، وعدوه من كفرهم ، وقالوا : إن الله تعالى يقول : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) [ سورة ص : 54 ] وقال تعالى : ( أكلها دائم وظلها ) [ سورة الرعد : 35 ] ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة [31] .
وأما أبو الهذيل فقال : إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط ، فيمكن بقاء الجنة والنار ، لكن تنقطع الحركات ، فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ، ولا شيء يحدث . ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث ، فيلزم وجود أجسام بلا [ ص: 311 ] حوادث ، فينتقض الأصل الذي أصلوه ، وهو أن الأجسام لا تخلو [32] عن الحوادث .
وهذا هو الأصل الذي أصله هشام بن الحكم وهشام بن سالم [33] الجواليقي وغيرهما من المجسمة الرافضة وغير الرافضة [34] كالكرامية ، فقالوا : بل يجوز ثبوت جسم قديم [ أزلي ] [35] لا أول لوجوده ، وهو خال عن جميع الحوادث . وهؤلاء عندهم الجسم القديم الأزلي يخلو عن الحوادث ، وأما الأجسام المخلوقة فلا تخلو عن الحوادث ، ويقولون : ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، لكن لا [36] يقولون : إن كل جسم فإنه لا يخلو عن الحوادث .
ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا : إن الرب لا تقوم به الصفات ولا الأفعال [37] فإنها أعراض وحوادث ، وهذه لا تقوم إلا بجسم ، والأجسام محدثة ، فيلزم أن لا يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك من الصفات ، بل جميع [38] ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه .
[ ص: 312 ] والجهمية كانوا يقولون : قولنا : إنه يتكلم هو [39] مجاز . والمعتزلة قالوا : إنه [40] متكلم حقيقة ، لكن المعنى واحد . فكان أصل هؤلاء هو [41] المادة التي تشعبت عنها هذه البدع ، فجاء بعد هؤلاء لما ظهرت المحنة المشهورة ، وامتحن الإمام ابن كلاب ] أحمد [ بن حنبل [42] وغيره من أئمة السنة ، وثبت الله ، وجرت أمور كثيرة [ معروفة ] الإمام أحمد بن حنبل [43] ، وانتشر بين الأمة النزاع في هذه المسائل ، قام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري ، وصنف في الرد على الجهمية والمعتزلة مصنفات ، وبين تناقضهم [ فيها ] [44] ، وكشف كثيرا من عوراتهم ، لكن سلم لهم ذلك الأصل الذي هو ينبوع البدع ، فاحتاج لذلك أن يقول : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا نادى موسى حين جاء الطور ، بل ولا يقوم به نداء حقيقي ، ولا يكون [ إيمان ] [45] العباد وعملهم الصالح هو السبب في رضاه ومحبته ، ولا كفرهم هو السبب في سخطه وغضبه ، فلا يكون بعد أعمالهم لا حب ولا رضا ولا سخط ولا فرح ولا غير ذلك مما أخبرت به نصوص الكتاب والسنة .
قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ سورة آل عمران : 31 ] [ ص: 313 ] ، وقال [ تعالى ] [46] : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) ) [ سورة محمد : 28 ] ، وقال [ تعالى ] [47] : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) [ سورة الزخرف : 55 ] وقال [ تعالى ] [48] : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ) [ سورة الزمر : 7 ] ، وقال [ تعالى ] [49] : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ سورة آل عمران : 59 ] ، وقال [ تعالى ] [50] : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) [ سورة الأعراف : 11 ] .
وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى [51] إلا بكلفة ، وهي تبلغ مئين من نصوص القرآن والحديث ، كما ذكرنا طرفا منها في غير هذا الموضع [52] ، وذكرنا كلام السلف والخلف في هذا الأصل ، وذكرنا [53] مذاهب القدماء من الفلاسفة [ أيضا ] [54] وموافقة أساطينهم على هذا الأصل .
ثم إنه بسبب ذلك [55] ، فاحتاج ابن كلاب ومتبعوه إلى أن يقولوا : هو قديم ، وإنه لازم لذات الله ، وإن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته ، وجعلوا جميع ما يتكلم به قديم العين ، لم يقولوا : إنه [ ص: 314 ] يتكلم بمشيئته وقدرته أزلا وأبدا ، وإن كلامه قديم بمعنى أنه قديم النوع ، لم يزل الله متكلما بمشيئته كما قاله تفرق الناس في مسألة القرآن [56] السلف والأئمة .
ثم قالوا : إنه قديم العين ، وافترقوا [57] على حزبين : حزب قالوا : يمتنع أن يكون القديم هو الحروف والأصوات ؛ لامتناع البقاء عليها وكونها توجد شيئا بعد شيء ؛ لأن المسبوق بغيره لا يكون قديما ، فالقديم هو المعنى ، ويمتنع وجود معان لا نهاية لها في آن واحد ، والتخصيص بعدد دون عدد لا موجب له ، فالقديم معنى واحد هو الأمر بكل مأمور ، والخبر عن كل مخبر ، وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن ، وهو معنى [58] آية الكرسي ، وآية الدين ، وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وأنكروا أن يكون الكلام العربي كلام الله .
والحزب الثاني قالوا : بل الحروف أو الحروف [59] والأصوات قديمة أزلية الأعيان ، وقالوا : الترتيب في ذاتها لا في وجودها ، وفرقوا بين الحقيقة وبين وجود الحقيقة كما يفرق كثير من أهل الكلام بين وجود الرب وبين حقيقته ، وكثير منهم ومن الفلاسفة يفرق بين وجود الممكنات وبين حقيقتها ، وقالوا : الترتيب هو [ في ] [60] حقيقتها لا في وجودها ، بل هي موجودة أزلا وأبدا ، لم يسبق منها شيء شيئا [61] ، وإن كانت حقيقتها [62] [ ص: 315 ] مرتبة ترتيبا عقليا كترتيب الذات على الصفات ، وكترتيب المعلول على العلة كما يقوله المتفلسفة القائلون بقدم العالم حيث قالوا : إن الرب متقدم على العالم بذاته وحقيقته ولم يتقدم عليه تقدما زمانيا ، وقالوا في تقدم بعض كلامه على بعض كما قال هؤلاء في تقدمه على معلوله ، وهؤلاء يجعلون التقدم والتأخر والترتيب نوعين : عقليا ووجوديا ، ويدعون أن ما أثبتوه من الترتيب والتقدم والتأخر هو عقلي لا وجودي .
وأما جمهور العقلاء فينكرون هذا ، ويقولون : إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة ، وإن الترتيب والتقدم والتأخر لا يعقل إلا وجود الشيء بعد غيره ، لا يمكن مع كونه معه إلا أن يكون بعده [63] كما يقولون : إن المعلول لا يكون إلا بعد العلة ولا يكون إلا معها ، وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع [ بسطا كبيرا ولكن ذكر هنا ما تيسر ] [64] .
والمقصود أن هذه الطريق [65] الكلامية التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة ، وأنكرها سلف الأمة وأئمتها صارت عند كثير من النظار المتأخرين [66] هي دين الإسلام ، بل [67] يعتقدون أن من خالفها فقد خالف دين الإسلام ، مع أنه لم ينطق بما فيها من الحكم ، والدليل لا آية من كتاب الله ، ولا خبرا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أحدا من الصحابة والتابعين [ لهم [ ص: 316 ] بإحسان ] [68] فكيف يكون دين الإسلام ، [ بل أصل أصول دين الإسلام ] [69] مما لم [70] يدل عليه لا كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف ؟ ! .