الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 457 ] فصل

                  قال الرافضي [1] : " الثالث : أن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع ؛ لانقطاع الوحي بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية [2] الواقعة إلى يوم القيامة ، فلا بد من إمام منصوب [3] من الله تعالى ، معصوم من الزلل والخطأ [4] ، لئلا يترك بعض الأحكام ، أو يزيد فيها عمدا أو سهوا . وغير علي [5] لم يكن كذلك بالإجماع " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع ، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع . وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد ، بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم . وإذا كان كل طائفة تقوم بهم [6] الحجة تنقل بعصمة [7] ، حصل المقصود . وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من [8] ليس بنبي ، فإن أبا بكر وعمر وعثمان [ ص: 458 ] وعليا - ولو قيل إنهم معصومون - فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء .

                  وأيضا فإن كان [9] أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل المقصود ، فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفره ؟ .

                  والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم .

                  الوجه الثاني : أن يقال : أتريد به من يكون [10] حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما ؟ أو من يكون معصوما ؟ فإن اشترطت [11] العصمة فهذا هو الوجه الأول ، وقد كررته ، وتقدم الجواب عليه [12] . وإن اشترطت [13] مجرد الحفظ ، فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة ، وأعلم بهما من أبي بكر وعمر ، بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه ، فبطل ما ادعاه من الإجماع .

                  الوجه الثالث : أن يقال : أتعني [14] بكونه حافظا للشرع معصوما أنه [15] لا يعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله ؟ أم يمكن أن يعلم صحة شيء من الشرع بدون نقله ؟ .

                  إن [16] قلت بالثاني [17] لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته [18] ، فإنه [ ص: 459 ] إذا [19] أمكن حفظ شيء من الشرع بدونه ، أمكن حفظ الآخر ، حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه .

                  وإن [20] قلت : بل معناه أنه لا يمكن معرفة شيء من الشرع إلا بحفظه .

                  فيقال : حينئذ لا تقوم حجة [21] على أهل الأرض إلا بنقله ، ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ، ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه ، فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به ، وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته .

                  الوجه الرابع : أن يقال : فبماذا تثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - عند من يقر بنبوته ؟

                  فإن قيل : بما نقله الإمام من معجزاته .

                  قيل : من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي - رضي الله عنه - بطريق الأولى ، بل يقدح في هذا وهذا .

                  وإن قيل : بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته ، كالقرآن وغيره .

                  قيل : فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته ، فكيف لا يكون حجة يثبت بها [22] فروع شريعته ؟

                  الوجه الخامس : أن الإمام : هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر ؟ [ أم ] [23] لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام ؟ [ ص: 460 ] فإن كان الإمام يمكنه ذلك ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يمكنه ذلك بطريق الأولى ، وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام .

                  وإن قيل : لا يمكنه ذلك .

                  لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد ، والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم [ يقولون ] عليه ما يشاؤون [24] ، ويصير [25] دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود ، الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله .

                  الوجه السادس [26] : أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة ، فإنه إذا كان الذي يدعى العصمة فيه وحفظ من عصبته [27] ، كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته . ويقال : إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه [28] ، وعهد إليهم ما يحفظون به الملك ، وأن لا يعرف ذلك غيرهم ، فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء .

                  الوجه السابع : أن يقال : الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله ، [ وحينئذ ] [29] فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين [30] الذين حصل بهم مقصود حفظ [ ص: 461 ] الشرع وتبليغه . ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود ، وإن لم يكونوا هم الأئمة .

                  الوجه الثامن : أن يقال : لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع . فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه ، والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه ، والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على [31] الأحكام .

                  وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به [32] عن واحد معدوم .

                  الوجه التاسع : أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه [33] إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم ، وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع ، فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ؟ ولم لا [ يجوز أن ] يكون [34] هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شيء من كلام [ الله ] [35] ؟ .

                  وكذلك من أين لكم العلم بشيء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحكامه ، وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم ؛ لأن المعصوم إما مفقود وإما [36] معدوم .

                  [ ص: 462 ] فإن قالوا : تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم [37] عن الأئمة المعصومين .

                  قيل : فإذا كان تواتر [38] أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله ، فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله ، من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد [39] ؟ .

                  وهم يقولون : إن ما بأيديهم [ من العلم الموروث ] [40] عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شيء من المنتظر ، فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شيء عمن بعده ؟ وإذا كانوا يدعون أن ما ينقلونه عن واحد من الاثني عشر ثابت [41] ، فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ؟ .

                  ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير ، وأنهم أحرص على [ حفظ ] [42] دين نبيهم وتبليغه [43] ، أقدر [44] على ذلك من الرافضة : على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله . وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور .

                  الوجه العاشر : أن يقال : قولك : " لانقطاع الوحي وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام " أتريد به قصورها عن بيان جزئي بعينه ؟ أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات ؟

                  [ ص: 463 ] فإن ادعيت الأول ، قيل لك : وكلام الإمام وكل أحد [45] بهذه المنزلة ، فإن الأمير إذا خاطب الناس [46] فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك ، فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من [ كل ] [47] فاعل في كل وقت ، فإن هذا غير ممكن ، فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي ، والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول .

                  وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية .

                  قيل لك : هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام ، فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى ، فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين : إما ثبوت عموم الألفاظ ، وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار . وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول ، فلا يحتاج في بيانه [48] الأحكام إلى الإمام .

                  الوجه الحادي عشر : أن يقال : وقد [49] قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ سورة إبراهيم : 4 ] وقال تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] وقال تعالى : ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) [ سورة النور : 54 ] وأمثال ذلك .

                  [ فيقال : ] [50] وهل [51] قامت الحجة على الخلق [52] ببيان الرسوم أم لا ؟

                  [ ص: 464 ] فإن لم تقم [53] بطلت هذه الآيات وما كان في معناها ، وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر [54] يفتقر الناس إلى بيانه ، فضلا عن [ حفظ ] [55] تبليغه ، وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك ، لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر ، فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير .

                  وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين ، من أعظم الإفساد لأصول الدين [56] . وهذا لا يقوله - وهو يعلم لوازمه - إلا زنديق ملحد ، قاصد [57] لإبطال الدين ، ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال .

                  الوجه الثاني عشر : أن يقال : قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي ، فإن عمر - رضي الله عنه - لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم ، واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ، ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما .

                  وهذا أمر معلوم . ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين ; فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود [ ص: 465 ] والنقل عنه ليس متواترا [58] ، وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية