[ ص: 457 ] فصل
قال الرافضي [1] : " الثالث : أن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع ؛ لانقطاع الوحي بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية [2] الواقعة إلى يوم القيامة ، فلا بد من إمام منصوب [3] من الله تعالى ، معصوم من الزلل والخطأ [4] ، لئلا يترك بعض الأحكام ، أو يزيد فيها عمدا أو سهوا . وغير علي [5] لم يكن كذلك بالإجماع " .
والجواب من وجوه : أحدها : أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع ، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع . . وإذا كان كل طائفة تقوم بهم وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد ، بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم [6] الحجة تنقل بعصمة [7] ، حصل المقصود . [8] ليس بنبي ، فإن وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من أبا بكر وعمر [ ص: 458 ] وعثمان - ولو قيل إنهم معصومون - فما نقله وعليا المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء .
وأيضا فإن كان [9] أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل المقصود ، فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفره ؟ .
والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم .
الوجه الثاني : أن يقال : أتريد به من يكون [10] حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما ؟ أو من يكون معصوما ؟ فإن اشترطت [11] العصمة فهذا هو الوجه الأول ، وقد كررته ، وتقدم الجواب عليه [12] . وإن اشترطت [13] مجرد الحفظ ، فلا نسلم أن كان أحفظ للكتاب والسنة ، وأعلم بهما من عليا أبي بكر ، بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه ، فبطل ما ادعاه من الإجماع . وعمر
الوجه الثالث : أن يقال : أتعني [14] بكونه حافظا للشرع معصوما أنه [15] لا يعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله ؟ أم يمكن أن يعلم صحة شيء من الشرع بدون نقله ؟ .
إن [16] قلت بالثاني [17] لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته [18] ، فإنه [ ص: 459 ] إذا [19] أمكن حفظ شيء من الشرع بدونه ، أمكن حفظ الآخر ، حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه .
وإن [20] قلت : بل معناه أنه لا يمكن معرفة شيء من الشرع إلا بحفظه .
فيقال : حينئذ لا تقوم حجة [21] على أهل الأرض إلا بنقله ، ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ، ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه ، فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به ، وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته .
الوجه الرابع : أن يقال : فبماذا تثبت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - عند من يقر بنبوته ؟
فإن قيل : بما نقله الإمام من معجزاته .
قيل : من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة - رضي الله عنه - بطريق الأولى ، بل يقدح في هذا وهذا . علي
وإن قيل : بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته ، كالقرآن وغيره .
قيل : [22] فروع شريعته ؟ فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته ، فكيف لا يكون حجة يثبت بها
الوجه الخامس : أن الإمام : هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر ؟ [ أم ] [23] لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام ؟ [ ص: 460 ] فإن كان الإمام يمكنه ذلك ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يمكنه ذلك بطريق الأولى ، وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام .
وإن قيل : لا يمكنه ذلك .
لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد ، والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم [ يقولون ] عليه ما يشاؤون [24] ، ويصير [25] دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود ، الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله .
الوجه السادس [26] : أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة ، فإنه إذا كان الذي يدعى العصمة فيه وحفظ من عصبته [27] ، كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته . ويقال : إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه [28] ، وعهد إليهم ما يحفظون به الملك ، وأن لا يعرف ذلك غيرهم ، فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء .
الوجه السابع : أن يقال : الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله ، [ وحينئذ ] [29] فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين [30] الذين حصل بهم مقصود حفظ [ ص: 461 ] الشرع وتبليغه . ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود ، وإن لم يكونوا هم الأئمة .
الوجه الثامن : أن يقال : لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع . فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه ، والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه ، والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على [31] الأحكام .
وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به [32] عن واحد معدوم .
الوجه التاسع : أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه [33] إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم ، وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع ، فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ؟ ولم لا [ يجوز أن ] يكون [34] هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شيء من كلام [ الله ] [35] ؟ .
وكذلك من أين لكم العلم بشيء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحكامه ، وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم ؛ لأن المعصوم إما مفقود وإما [36] معدوم .
[ ص: 462 ] فإن قالوا : تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم [37] عن الأئمة المعصومين .
قيل : فإذا كان تواتر [38] أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله ، فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله ، من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد [39] ؟ .
وهم يقولون : إن ما بأيديهم [ من العلم الموروث ] [40] عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شيء من المنتظر ، فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شيء عمن بعده ؟ وإذا كانوا يدعون أن ما ينقلونه عن واحد من الاثني عشر ثابت [41] ، فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ؟ .
ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير ، وأنهم أحرص على [ حفظ ] [42] دين نبيهم وتبليغه [43] ، أقدر [44] على ذلك من الرافضة : على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله . وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور .
الوجه العاشر : أن يقال : قولك : " لانقطاع الوحي وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام " أتريد به قصورها عن بيان جزئي بعينه ؟ أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات ؟
[ ص: 463 ] فإن ادعيت الأول ، قيل لك : وكلام الإمام وكل أحد [45] بهذه المنزلة ، فإن الأمير إذا خاطب الناس [46] فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك ، فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من [ كل ] [47] فاعل في كل وقت ، فإن هذا غير ممكن ، فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي ، والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول .
وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية .
قيل لك : هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام ، فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى ، فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين : إما ثبوت عموم الألفاظ ، وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار . وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول ، فلا يحتاج في بيانه [48] الأحكام إلى الإمام .
الوجه الحادي عشر : أن يقال : وقد [49] قال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ سورة إبراهيم : 4 ] وقال تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] وقال تعالى : ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) [ سورة النور : 54 ] وأمثال ذلك .
[ فيقال : ] [50] وهل [51] قامت الحجة على الخلق [52] ببيان الرسوم أم لا ؟
[ ص: 464 ] فإن لم تقم [53] بطلت هذه الآيات وما كان في معناها ، وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر [54] يفتقر الناس إلى بيانه ، فضلا عن [ حفظ ] [55] تبليغه ، وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك ، لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر ، فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير .
وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين ، من أعظم الإفساد لأصول الدين [56] . وهذا لا يقوله - وهو يعلم لوازمه - إلا زنديق ملحد ، قاصد [57] لإبطال الدين ، ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال .
الوجه الثاني عشر : أن يقال : قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل ، فإن علي - رضي الله عنه - لما فتح الأمصار بعث إلى عمر الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم ، واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ، ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود وأمثالهما . ومعاذ بن جبل
وهذا أمر معلوم . ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن لبطل عامة الدين ; فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود [ ص: 465 ] والنقل عنه ليس متواترا علي [58] ، وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة .