الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وجواب عاشر : وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن ، والكليات قد نص [ عليها ] [1] . فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا ، وإن أمر بطاعته في الجزئيات ، سواء وافقت الكليات أو خالفتها ، كان هذا باطلا ، وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات ، فهذا حكم كل متول .

                  وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده ، إذا لم يكن منصوصا عليه ، يظن الظان أنه لا تجوز طاعته ، إذ طاعة الأول إنما وجبت بالنص ، ولا نص معه .

                  وإن قيل : كل واحد ينص على الآخر ، فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما .

                  والعصمة منتفية عن غير الرسول ، وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة ، وذلك من أفسد الأقوال .

                  فكذلك هذا ، أعني النص الذي تدعيه الرافضة [2] ، وهو الأمر بطاعة المتولي في كل ما يقوله ، من غير رد ما يقوله إلى الكتاب والسنة إذا نوزع .

                  [ ص: 452 ] وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة [3] لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين ، فإن الدين [4] محفوظ بدونه .

                  وبالجملة فالنص على معين : إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به [5] وينهى عنه ويبيحه ، وليس [6] لأحد أن ( * ينازعه في شيء ، كما ليس [ له ] [7] أن * ) [8] ينازع الرسول ، وأنه يستبد بالأحكام ، والأمة معه كما كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا [9] لا يكون لأحد بعد الرسول ، ولا يمكن هذا لغيره ، فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ، ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول ، فلم يبق سبيل إلى مماثلته : لا من جهته ، ولا من جهة الرب تعالى .

                  وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره ، وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله ، وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ، ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة - فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر .

                  وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه ، كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ، ويعهد إليهم في ذلك - فهذا إذا علم أن الأمة [10] تفعله ، كان تركه خيرا [ ص: 453 ] من فعله . وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره ، كان الأمر أولى به .

                  ولهذا لما خشي عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - أن يختلفوا بعده ، عهد إلى عمر ، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك [11] .

                  كما في الصحيحين أنه قال لعائشة : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي " ثم [ قال ] [12] : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " [13] .

                  فعلم أن الله لا يولي إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر [14] . وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك ، وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل ، كما فعل [ النبي ] [15] - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام - وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله - كان أفضل للأمة ، ودل على علمها ودينها .

                  فإنها لو ألزمت بذلك ، لربما قيل : إنها أكرهت على الحق ، وهي لا تختاره ، كما كان يجري [ مثل ] [16] ذلك لبني إسرائيل ، ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب ، فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف ، كما كان أبو سفيان وغيره [ ص: 454 ] يختارون ذلك . فلو ألزم المهاجرين [17] والأنصار بهذا ، لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله ، وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أولا وآخرا ، وموافقته له باطنا وظاهرا .

                  فقد يقول القائل : إنهم كانوا في الباطن كارهين [18] لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول ، لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه ، لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر ، فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه [19] الله ورسوله من غير إلزام ، كان ذلك أعظم لقدرهم ، وأعلى لدرجتهم ، وأعظم في مثوبتهم [20] ، وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم .

                  ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر زيد بن حارثة ، وبعده أسامة [ بن زيد ] [21] ، وطعن بعض الناس في إمارتهما [22] ، واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما . فلو ألزمهم بواحد لكان [ يظن ] بهم [23] أن مثل هذا كان [ في ] [24] نفوسهم ، وأنه ليس الصديق [25] عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد .

                  فلما اتفقوا على بيعته ، ولم يقل قط أحد [26] : إني أحق بهذا الأمر منه ، [ ص: 455 ] لا قرشي ولا أنصاري ، فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق ، بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير .

                  وهذه منازعة عامة لقريش ، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة ، وقال لهم الصديق : " رضيت لكم أحد هذين الرجلين : عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح [27] " قال عمر : فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي ، لا يقربني ذلك [28] إلى إثم ، أحب إلي من أن أتأمر [29] على قوم فيهم أبو بكر " وقال له بمحضر الباقين : " أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة [30] .

                  ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم [31] ولا رهبة ، فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة ، والذين بايعوه ليلة العقبة ، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه ، والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة ، كالطلقاء وغيرهم .

                  ولم يقل أحد قط : إني أحق بهذا من أبي بكر ، ولا قاله أحد في أحد بعينه : إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر .

                  وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية : إن بيت الرسول أحق [ ص: 456 ] بالولاية . لكون [32] العرب [ كانت ] في جاهليتها [33] تقدم أهل بيت الرؤساء ، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك .

                  فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا ، كما نقل عن أبي سفيان [34] . وصاحب هذا الرأي لم يكن [35] له غرض في علي ; بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي ، وإن قدر أنه رجح عليا ، فلعلمه [36] بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب ، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام .

                  فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض ، وهو التقديم بالإيمان والتقوى ، فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ، ولا خالف أحد من هؤلاء [37] ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى [38] من أبي بكر ، فقدموه مختارين له مطيعين ، فدل ذلك [39] على كمال إيمانهم وتقواهم ، واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى ، وكان ما اختاره الله لنبيهم [40] - صلى الله عليه وسلم - ولهم أفضل لهم ، والحمد لله على أن هدى هذه الأمة ، وعلى أن جعلنا من أتباعهم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية