الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الثالث : أن يقال : أنتم ادعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن ، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا ; فإنه قال : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) [ سورة المائدة : 67 ] . وهذا اللفظ عام في جميع ما أنزل إليه من ربه ، لا يدل على شيء معين .

                  فدعوى المدعى أن إمامة علي هي [1] مما بلغها ، أو مما [2] أمر بتبليغها ، لا تثبت بمجرد القرآن ، فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء معين ، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقرآن . فمن ادعى أن القرآن يدل على [ أن ] [3] إمامة علي مما أمر بتبليغه ، فقد افترى على القرآن ، فالقرآن لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصا .

                  الوجه الرابع [4] : أن يقال : هذه الآية ، مع ما علم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تدل على نقيض ما ذكروه ، وهو أن الله لم ينزلها عليه ، ولم يأمره بها [5] ، فإنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه ، لبلغه ; فإنه لا يعصي الله في ذلك .

                  [ ص: 48 ] ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - : " من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب ، والله تعالى يقول : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) [ سورة المائدة : 67 ] .

                  لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ شيئا من إمامة علي ، ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم .

                  منها : أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، فلو كان له أصل لنقل ، كما نقل أمثاله من حديثه ، لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي ، من الكذب الذي لا أصل له ، فكيف لا ينقل الحق [ الصدق ] [6] الذي قد بلغ للناس ؟ ! .

                  ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه ، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه .

                  ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير ، فأنكر [7] ذلك عليه ، وقالوا : الإمارة لا تكون إلا في قريش ، وروى الصحابة في [ مواطن ] [8] متفرقة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في [9] : " أن الإمامة في قريش " [10] [ ص: 49 ] ولم يرو واحد [11] منهم : لا في ذلك المجلس ولا غيره ، ما يدل على إمامة علي .

                  وبايع المسلمون أبا بكر ، وكان أكثر بني عبد مناف - من بني أمية وبني هاشم وغيرهم - لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته ، ولم يذكر أحد منهم هذا النص . وهكذا أجري الأمر [12] في عهد عمر وعثمان ، وفي عهده أيضا لما صارت له ولاية ، ولم يذكر [13] هو ولا أحد من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص ، وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك .

                  وأهل العلم بالحديث والسنة الذين يتولون عليا ويحبونه ، ويقولون [14] : إنه كان الخليفة بعد عثمان ، كأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة ، قد نازعهم [15] في ذلك طوائف من أهل العلم وغيرهم ، وقالوا : كان زمانه زمان فتنة واختلاف [16] بين الأمة ، لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره .

                  [ ص: 50 ] وقال طوائف من الناس كالكرامية : بل هو كان إماما ومعاوية إماما ، وجوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة . وهكذا قالوا في زمن ابن الزبير ويزيد ، حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام .

                  وأحمد بن حنبل ، مع أنه أعلم أهل زمانه بالحديث ، احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن : " تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ، ثم تصير ملكا " [17] . وبعض الناس ضعف هذا الحديث ، لكن أحمد وغيره يثبتونه ، فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي ، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به .

                  فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص ، هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا قديما ولا حديثا .

                  ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل ، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة .

                  وقد جرى تحكيم الحكمين ، ومعه أكثر الناس ، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم من ذكر هذا النص ، مع كثرة شيعته ، ولا فيهم من احتج به ، في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النص .

                  ومعلوم أنه لو كان النص معروفا عند شيعة علي - فضلا عن غيرهم - ; لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم : هذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلافته ، فيجب تقديمه على معاوية .

                  وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين ، لو [18] علم أن النبي - صلى الله [ ص: 51 ] عليه وسلم - نص عليه لم يستحل عزله ، ولو عزله لكان من أنكر عزله [19] عليه يقول : كيف تعزل من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته ؟ .

                  وقد احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " تقتل عمارا الفئة الباغية " وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم ، وليس هذا متواترا [20] . والنص عند القائلين به متواتر ، فيا لله العجب كيف ساغ [21] عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث ، ولم يحتج أحد منهم بالنص ؟ .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية