الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الثالث : قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [ سورة المائدة : 3 ] روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه [2] - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إلى غدير خم [3] ، وأمر بإزالة ما تحت الشجر من الشوك [4] ، فقام [5] فدعا [ ص: 52 ] عليا ، فأخذ [6] بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس إلى [ بياض ] [7] إبطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [ سورة المائدة : 3 ] . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، وبالولاية لعلي من بعدي . ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : أن المستدل عليه بيان صحة الحديث .

                  ومجرد عزوه إلى رواية أبي نعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس : علماء السنة والشيعة ; فإن أبا نعيم روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة ، بل موضوعة باتفاق علماء أهل الحديث : السنة والشيعة . وهو وإن كان حافظا [8] كثير الحديث واسع الرواية ، لكن روى ، كما عادة المحدثين أمثاله يروون جميع ما في الباب ; لأجل المعرفة بذلك ، وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه . والناس في مصنفاتهم : منهم من لا يروي عمن يعلم أنه يكذب ، مثل مالك ، وشعبة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ; فإن هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم ، [ ص: 53 ] ولا يروون حديثا يعلمون أنه عن كذاب ، فلا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب ، لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه .

                  وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم ; لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك ، ليعتبر بها ويستشهد بها ، فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له أنه محفوظ ، وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ وقد يكون صاحبها كذبها [9] في الباطن ، ليس مشهورا بالكذب ، بل يروي كثيرا من الصدق ، فيروى حديثه .

                  وليس كل ما رواه الفاسق يكون كذبا ، بل يجب التبين [10] من خبره كما قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) [ سورة الحجرات : 6 ] فيروى لتنظر سائر الشواهد : هل تدل على الصدق أو الكذب ؟ .

                  وكثير من المصنفين يعز عليه تمييز ذلك على وجهه ، بل يعجز عن ذلك ، فيروي ما سمعه كما سمعه ، والدرك على غيره لا عليه ، وأهل العلم ينظرون في ذلك وفي رجاله وإسناده .

                  الوجه الثاني : أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات . وهذا يعرفه أهل العلم [11] بالحديث ، والمرجع إليهم في ذلك . ولذلك [12] لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث .

                  [ ص: 54 ] الوجه الثالث : أنه قد ثبت في الصحاح والمساند [13] والتفسير أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة ، وقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرءونها ; لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك [ اليوم ] [14] عيدا . فقال له عمر : وأي آية هي ؟ قال : قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [ سورة المائدة : 3 ] فقال عمر : إني لأعلم أي يوم نزلت ، وفي أي مكان نزلت . نزلت [15] يوم عرفة بعرفة [16] ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة . وهذا مستفيض من زيادة وجوه أخر [17] . وهو منقول في كتب المسلمين : الصحاح والمساند والجوامع والسير والتفسير [18] وغير ذلك [19] .

                  وهذا اليوم كان قبل غدير خم بتسعة أيام ، فإنه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة ، فكيف يقال : إنها نزلت يوم الغدير ؟ ! .

                  الوجه الرابع : أن هذه الآية ليس فيها دلالة على علي ولا إمامته بوجه [ ص: 55 ] من الوجوه ، بل فيها إخبار الله بإكمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين ، ورضا الإسلام دينا . فدعوى المدعي أن القرآن يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر .

                  وإن قال : الحديث يدل على ذلك .

                  فيقال : الحديث إن كان صحيحا ، فتكون الحجة من الحديث لا من الآية . وإن لم يكن صحيحا فلا حجة في هذا ولا في هذا .

                  فعلى التقديرين لا دلالة في الآية على ذلك . وهذا مما يبين به [20] كذب الحديث ، فإن نزول الآية لهذا السبب ، وليس فيها ما يدل عليه أصلا ، تناقض .

                  الوجه الخامس : أن هذا اللفظ ، وهو قوله : " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله " كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث .

                  وأما قوله : " من كنت مولاه فعلي مولاه " فلهم فيه قولان ، وسنذكره - إن شاء الله - في موضعه .

                  الوجه السادس : أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاب ، وهذا الدعاء ليس بمجاب ، فعلم أنه ليس من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه من المعلوم أنه لما تولى كان الصحابة وسائر المسلمين ثلاثة أصناف : صنف قاتلوا معه ، وصنف قاتلوه ، وصنف قعدوا عن هذا وهذا . وأكثر السابقين الأولين كانوا من القعود . وقد قيل : إن بعض السابقين الأولين قاتلوه . وذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية [21] ، وأن أبا الغادية [ ص: 56 ] هذا من السابقين ، ممن بايع تحت الشجرة . وأولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين أنه لا يدخل النار منهم أحد .

                  ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " [22] .

                  وفي الصحيح أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار . فقال : " كذبت ; إنه شهد بدرا والحديبية " [23] .

                  وحاطب هذا هو الذي كاتب المشركين بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبسبب ذلك نزل [24] : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) [ سورة الممتحنة : 1 ] الآية ، وكان مسيئا إلى مماليكه ، ولهذا قال مملوكه هذا القول ، وكذبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : " إنه شهد بدرا والحديبية " وفي الصحيح : " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " .

                  وهؤلاء فيهم ممن قاتل عليا ، كطلحة [25] والزبير ، وإن كان قاتل عمار فيهم فهو أبلغ من غيره .

                  وكان الذين بايعوه تحت الشجرة نحو ألف وأربعمائة ، وهم الذين فتح الله عليهم [26] خيبر [27] ، كما وعدهم الله بذلك في سورة الفتح ، وقسمها بينهم [ ص: 57 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهما ; لأنه كان فيهم مائتا فارس ، فقسم للفارس ثلاثة أسهم : سهما له ، وسهمين لفرسه ، فصار لأهل الخيل ستمائة سهم ، ولغيرهم ألف ومائتا سهم . هذا هو الذي ثبت في الأحاديث الصحيحة [28] ، وعليه أكثر أهل العلم ، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم . وقد ذهب طائفة إلى أنه أسهم للفارس سهمين ، وأن الخيل كانت ثلاثمائة ، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة .

                  وأما علي فلا ريب أنه قاتل معه طائفة من السابقين الأولين ، كسهل بن حنيف ، وعمار بن ياسر . لكن الذين لم يقاتلوا معه كانوا أفضل ، فإن سعد بن أبي وقاص لم يقاتل معه ، ولم يكن قد بقي من الصحابة بعد علي أفضل منه . وكذلك محمد بن مسلمة من الأنصار [29] ، وقد جاء في [30] الحديث : " أن الفتنة لا تضره " [31] فاعتزل . وهذا مما استدل به على أن القتال كان قتال فتنة بتأويل ، لم يكن من الجهاد الواجب ولا المستحب .

                  وعلي - ومن معه - أولى بالحق من معاوية وأصحابه ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " [32] فدل هذا الحديث على أن عليا أولى بالحق ممن قاتله ; فإنه هو الذي قتل الخوارج لما افترق المسلمون ، فكان قوم معه وقوم عليه . ثم إن هؤلاء الذين قاتلوه لم يخذلوا ، بل ما زالوا [33] [ ص: 58 ] منصورين يفتحون البلاد ويقتلون الكفار .

                  وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " [34] قال : " معاذ بن جبل : " وهم بالشام " .

                  وفي مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة " [35] . قال أحمد بن حنبل وغيره : " أهل الغرب هم أهل الشام " .

                  وهذا كما ذكروه ; فإن كل بلد له غرب وشرق ، والاعتبار في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغرب مدينته ، ومن الفرات هو غرب المدينة ، فالبيرة [36] ونحوها على سمت المدينة ، كما أن حران [37] والرقة [38] وسميساط [39] ونحوها على سمت مكة . ولهذا يقال : إن قبلة هؤلاء أعدل القبل ، بمعنى أنك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك ، فتكون مستقبل الكعبة ، فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض ، وأهل الشام أول هؤلاء .

                  [ ص: 59 ] والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوا قط ، بل ولا في قتال علي . فكيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم اخذل من خذله وانصر من نصره " [ والذين قاتلوا معه لم ينصروا على هؤلاء ، بل الشيعة الذين تزعمون أنهم مختصون بعلي ما زالوا مخذولين مقهورين لا ينصرون إلا مع غيرهم : إما مسلمين وإما كفار ، وهم يدعون أنهم أنصاره ] [40] ، فأين نصر الله لمن نصره ؟ ! وهذا وغيره مما يبين كذب هذا الحديث .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية