الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الرابع : قوله تعالى : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ) [ سورة النجم : 1 - 2 ] روى الفقيه علي بن المغازلي [2] الشافعي بإسناده عن ابن عباس ، قال : كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ انقض كوكب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من انقض هذا النجم في منزله ، فهو الوصي من بعدي " فقام فتية من بني هاشم ، فنظروا ، فإذا الكوكب قد انقض في منزل علي [3] ، قالوا : يا رسول الله قد [4] غويت في حب علي ، فأنزل الله تعالى : ( [ ص: 60 ] والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى [ سورة النجم : 1 - 2 ] .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحته ، كما تقدم . وذلك أن القول بلا علم حرام بالنص والإجماع .

                  قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) [ سورة الإسراء : 36 ] .

                  وقال : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ سورة الأعراف : 33 ] .

                  وقال : ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ) [ سورة آل عمران : 66 ] .

                  وقال : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) [ سورة الحج : 3 ] .

                  وقال : ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا ) [ سورة غافر : 35 ] [5] .

                  والسلطان الذي أتاهم هو الحجة الآتية من عند الله ، كما قال : ( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ) [ سورة الروم : 35 ] وقال : ( أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) [ سورة الصافات : 156 - 157 ] .

                  وقال : ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) [ سورة النجم : 23 ] [ ص: 61 ] فما جاءت به الرسل عن الله فهو سلطان ، فالقرآن [6] سلطان ، والسنة سلطان ، لكن لا يعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء به إلا بالنقل الصادق عن الله ، فكل من احتج بشيء منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعليه أن يعلم صحته ، قبل أن يعتقد موجبه ويستدل به . وإذا احتج به على غيره ، فعليه بيان صحته ، وإلا كان قائلا بلا علم ، مستدلا بلا علم .

                  وإذا علم أن في الكتب المصنفة في الفضائل ما هو كذب ، صار الاعتماد على مجرد ما فيها ، مثل الاستدلال بشهادة الفاسق ، الذي يصدق تارة ويكذب أخرى . بل لو لم يعلم أن فيها كذبا ، لم يفدنا علما حتى نعلم [7] ثقة من رواها .

                  وبيننا وبين الرسول مئون من السنين [8] ، ونحن نعلم بالضرورة أن فيما ينقل الناس عنه وعن غيره صدقا وكذبا [9] ، وقد روى عنه أنه قال : سيكذب علي ، فإن كان هذا الحديث صدقا ، فلا بد أن يكذب عليه ، وإن كان كذبا فقد كذب عليه . وإن [10] كان كذلك لم يجز لأحد أن يحتج في مسألة فرعية بحديث حتى يبين ما به يثبت ، فكيف يحتج في مسائل الأصول ، التي يقدح فيها في خيار القرون وجماهير المسلمين وسادات أولياء الله المقربين ، بحيث لا يعلم المحتج به صدقه ؟ .

                  [ ص: 62 ] وهو لو قيل له : أتعلم أن هذا واقع ؟ فإن قال : أعلم ذلك ، فقد كذب . فمن أين [11] يعلم وقوعه ؟ ويقال له : من أين علمت صدق ذلك ، وذلك [ مما ] [12] لا يعرف إلا بالإسناد [13] ومعرفة أحوال الرواة ؟ وأنت لا تعرفه ، ولو أنك عرفته لعرفت أن هذا كذب .

                  وإن قال : لا أعلم ذلك . فكيف يسوغ لك [14] الاحتجاج بما لا تعلم [15] صحته ؟ .

                  الثاني : أن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالحديث . وهذا المغازلي [16] ليس من أهل الحديث ، كأبي نعيم وأمثاله ، ولا هو أيضا [17] من جامعي العلم الذين يذكرون ما غالبه حق وبعضه باطل ; كالثعلبي وأمثاله ، بل هذا لم يكن الحديث من صنعته ، فعمد إلى ما وجده من كتب الناس من فضائل علي فجمعها ، كما فعل أخطب خوارزم ، وكلاهما لا يعرف الحديث ، وكل منهما يروي فيما جمعه من الأكاذيب الموضوعة ، ما لا يخفى أنه كذب على أقل علماء النقل والحديث [18] .

                  ولسنا نعلم [19] أن أحدهما يتعمد ) [20] الكذب فيما ينقله [21] ، لكن الذي [ ص: 63 ] تيقناه أن الأحاديث التي يروونها [22] فيها ما هو كذب كثير [23] باتفاق أهل العلم ، وما قد كذبه الناس قبلهم ، وهما - وأمثالهما - قد يروون ذلك ولا يعلمون أنه كذب ، وقد يعلمون أنه كذب . فلا أدري هل كانا من أهل العلم بأن هذا كذب ؟ أو كانا مما لا يعلمان ذلك ؟ .

                  وهذا الحديث ذكره الشيخ [24] أبو الفرج في " الموضوعات " [25] لكن بسياق آخر [26] ، من حديث محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لما عرج بالنبي [27] - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء السابعة ، وأراه الله من العجائب في كل سماء ، فلما أصبح [28] جعل يحدث الناس عن عجائب ربه [29] ، فكذبه من أهل مكة من كذبه ، وصدقه من صدقه ، فعند ذلك انقض نجم من السماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : في دار من [30] وقع [ هذا النجم ] [31] فهو خليفتي من بعدي ، فطلبوا [32] ذلك النجم [33] فوجدوه في دار علي بن أبي طالب [ - رضي الله عنه - ] [34] فقال أهل مكة : [ ص: 64 ] ضل محمد وغوى ، وهوى أهل بيته [35] ، ومال إلى ابن عمه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فعند ذلك نزلت هذه السورة : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى [36] [ سورة النجم : 1 - 2 ] . قال : " أبو الفرج [37] : " هذا حديث موضوع لا شك فيه ، وما أبرد الذي وضعه ، وما أبعد ما ذكر ، وفي إسناده ظلمات منها أبو صالح وكذلك [38] الكلبي ومحمد بن مروان السدي ، والمتهم به الكلبي . قال أبو حاتم بن حبان [39] : كان الكلبي من الذين يقولون : إن عليا لم يمت ، وإنه يرجع إلى الدنيا ، وإن رأوا سحابة قالوا : أمير المؤمنين فيها . لا يحل الاحتجاج به . قال : والعجب [40] من تغفيل [41] من وضع هذا الحديث ، كيف رتب ما لا يصح [42] في المعقول [43] من أن النجم يقع في دار ويثبت إلى أن يرى [44] ، ومن بلهه أنه وضع هذا الحديث على ابن عباس ، وكان ابن عباس زمن [45] المعراج ابن سنتين ، فكيف يشهد تلك الحالة [46] ويرويها ؟ " .

                  [ ص: 65 ] قلت : إذا لم يكن هذا الحديث في تفسير الكلبي المعروف عنه ، فهو مما وضع بعده . وهذا هو الأقرب . قال أبو الفرج [47] : وقد سرق هذا الحديث بعينه قوم وغيروا إسناده ، ورووه [48] بإسناد غريب [49] من طريق أبي بكر العطار ، عن سليمان بن أحمد المصري ، ومن طريق أبي قضاعة ربيعة بن محمد ، حدثنا ثوبان بن إبراهيم ، حدثنا مالك بن غسان النهشلي ، عن أنس [50] قال : " انقض كوكب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : انظروا إلى هذا الكوكب فمن انقض في داره فهو خليفة [51] من بعدي . قال : فنظرنا ، فإذا هو قد [52] انقض في منزل علي [53] ، فقال جماعة [54] : قد غوى محمد في حب علي [55] . فأنزل الله تعالى : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ) الآيات [56] [ سورة [ ص: 66 ] النجم : 1 - 2 ] قال أبو الفرج [57] : وهذا [ الحديث ] هو المتقدم [58] سرقه [59] بعض هؤلاء الرواة فغير [60] إسناده ، ومن تغفيله وضعه إياه على أنس فإن أنسا لم يكن بمكة زمن المعراج [61] ، ولا حين نزول هذه السورة [62] ; لأن المعراج كان قبل الهجرة بسنة ، وأنس إنما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ، وفي هذا الإسناد ظلمات . أما مالك النهشلي فقال ابن حبان : يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات ، وأما ثوبان فهو أخو ذي النون المصري ضعيف في الحديث ، وأبو قضاعة منكر الحديث متروكه ، وأبو بكر [63] العطار وسليمان بن أحمد مجهولان " .

                  الوجه الثالث : أنه مما يبين أنه كذب أن فيه ابن عباس شهد نزول سورة النجم حين انقض الكوكب في منزل علي ، وسورة النجم باتفاق الناس من أول ما نزل بمكة ، وابن عباس حين مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مراهقا للبلوغ لم يحتلم بعد ، هكذا ثبت عنه في الصحيحين . فعند نزول هذه الآية : إما أن ابن عباس لم يكن ولد بعد ، وإما أنه كان طفلا لا يميز ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر كان لابن عباس نحو خمس [64] سنين ، والأقرب أنه لم يكن ولد عند نزول سورة النجم ، فإنها من أوائل ما نزل من القرآن .

                  [ ص: 67 ] الوجه الرابع : أنه لم ينقض قط كوكب إلى الأرض بمكة ولا بالمدينة ولا غيرهما . ولما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كثر الرمي بالشهب ، ومع هذا فلم [65] ينزل كوكب إلى الأرض . وهذا ليس من الخوارق التي تعرف في العالم ، بل هو من الخوارق التي لا يعرف مثلها في العالم ، ولا يروي مثل هذا إلا من [ هو من ] أوقح [66] الناس ، وأجرئهم على الكذب ، وأقلهم حياء ودينا ، ولا يروج إلا على من هو من أجهل الناس وأحمقهم ، وأقلهم معرفة وعلما .

                  الوجه الخامس : أن نزول سورة النجم كان في أول الإسلام ، وعلي إذ ذاك كان صغيرا ، والأظهر أنه لم يكن احتلم [67] ولا تزوج بفاطمة ، ولا شرع بعد فرائض الصلاة أربعا وثلاثا واثنين ، ولا فرائض الزكاة ، ولا حج البيت [68] ، ولا صوم رمضان [69] ، ولا عامة قواعد الإسلام .

                  وأمر الوصية بالإمامة لو كان حقا إنما يكون في آخر الأمر كما ادعوه يوم غدير خم ، فكيف يكون قد نزل في ذلك الوقت ؟ .

                  الوجه السادس : أن أهل العلم بالتفسير متفقون على خلاف هذا ، وأن النجم المقسم به : إما نجوم السماء ، وإما نجوم القرآن ، ونحو ذلك . ولم يقل أحد : إنه كوكب نزل في دار أحد بمكة .

                  الوجه السابع : أن من قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " غويت " [ ص: 68 ] ، فهو كافر ، والكفار لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالفروع قبل الشهادتين والدخول في الإسلام .

                  الوجه الثامن : أن هذا النجم إن كان صاعقة ، فليس نزول الصاعقة في بيت شخص كرامة له ، وإن كان من نجوم السماء فهذه لا تفارق الفلك ، وإن كان من الشهب فهذه [70] يرمى بها رجوما للشياطين ، وهي لا تنزل إلى الأرض . ولو قدر أن الشيطان الذي رمي بها وصل إلى بيت علي حتى احترق بها ، فليس هذا كرامة له ، مع أن هذا لم [71] يقع قط .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية