الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل قال الرافضي [1] : " البرهان الخامس : قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [ سورة الأحزاب : 33 ] . فروى [2] . [3] في مسنده عن واثلة بن الأسقع قال : طلبت عليا في [4] منزله ، فقالت فاطمة [ - رضي الله عنها - ] [5] : ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فجاءا جميعا فدخلا ودخلت معهما ، فأجلس عليا عن يساره ، وفاطمة عن يمينه ، والحسن والحسين بين يديه ، ثم التفع عليهم [6] بثوبه ، [ ص: 69 ] وقال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) اللهم إن هؤلاء أهلي حقا [7] . وعن أم سلمة قالت : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بيتها ، فأتته فاطمة - رضي الله عنها - [8] ببرمة فيها حريرة ، فدخلت بها عليه ، فقال [9] : " ادعي [10] زوجك وابنيك . قالت : فجاء علي والحسن والحسين [11] فدخلوا وجلسوا يأكلون [12] من تلك الحريرة ، وهو وهم على منام له علي [13] ، وكان تحته كساء خيبري [14] . قالت : وأنا في الحجرة أصلي [15] ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) قالت : فأخذ فضل الكساء وكساهم به ، ثم أخرج يده فألوى بها ) [16] . إلى السماء ، وقال : " هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب [17] عنهم الرجس [ ص: 70 ] وطهرهم تطهيرا ، وكرر [18] ذلك . قالت : فأدخلت رأسي وقلت : وأنا معهم [19] يا رسول الله قال : إنك إلى [20] خير . وفي هذه الآية دلالة على العصمة ، مع التأكيد بلفظه : " إنما " وإدخال [21] اللام في الخبر ، والاختصاص في الخطاب بقوله : [ " أهل البيت " والتكرير بقوله : " ويطهركم " والتأكيد بقوله : ] [22] " تطهيرا " . وغيرهم ليس بمعصوم ، فتكون الإمامة [23] في علي ; ولأنه [24] ادعاها في عدة من أقواله ، كقوله : والله لقد تقمصها [25] ابن أبي قحافة ، وهو يعلم [26] أن محلي منها محل القطب من الرحى . وقد ثبت نفي الرجس عنه ، فيكون صادقا ، فيكون هو الإمام " . والجواب : أن هذا الحديث [27] صحيح في الجملة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي وفاطمة [28] وحسن وحسين [29] : اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " [30] . [ ص: 71 ] وروى ذلك مسلم عن عائشة قالت : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط مرحل [31] من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله [ معه ] [32] ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها [ معه ] [33] ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " . وهو مشهور من رواية أم سلمة من رواية أحمد والترمذي [34] ، لكن ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم . وتحقيق ذلك في مقامين أحدهما : أن قوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ، كقوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) [ سورة المائدة : 6 ] ، وكقوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ سورة البقرة : 185 ] ، وكقوله : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) [ سورة النساء : 26 - 27 ] . فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك [35] ، المراد ورضاه به ، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ، ولا أنه قضاه وقدره ، ولا أنه يكون لا محالة . والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية [ ص: 72 ] قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " . فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير . فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم ، لم يحتج إلى الطلب والدعاء . وهذا على قول القدرية أظهر ، فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد ، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد ، فليس في كونه تعالى مريدا لذلك ما يدل على وقوعه . وهذا الرافضي وأمثاله قدرية ، فكيف يحتجون بقوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) على وقوع المراد ؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض فلم يقع مراده ؟ . وأما على قول أهل الإثبات ، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه ، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره . الأولى مثل هؤلاء الآيات . والثانية مثل قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) [ سورة الأنعام : 125 ] وقول نوح : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) [ سورة هود : 34 ] [ ص: 73 ] وكثير من المثبتة [36] والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحدا ، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئا واحدا . ثم القدرية ينفون إرادته لما بين [37] أنه مراد في آيات التقدير [38] ، وأولئك ينفون إرادته لما بين أنه مراد في آيات التشريع [39] ، فإنه عندهم كل ما قيل : " إنه مراد " فلا بد [40] أن يكون كائنا . والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم ، وفيهم من تاب ، وفيهم من لم يتب ، وفيهم من تطهر ، وفيهم من لم يتطهر . وإذا كانت الآية دالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس ، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه . ومما يبين ذلك أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكورات في الآية ، والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ، ووعد الثواب على فعله ، والعقاب على تركه . قال تعالى : ( يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا . ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما . يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) [ سورة الأحزاب : 30 - 32 ] إلى قوله : ( [ ص: 74 ] وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [ سورة الأحزاب : 33 ] . فالخطاب كله لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد . لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت ، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ، وليس [41] مختصا بأزواجه ، بل هو متناول لأهل البيت كلهم ، وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك ; ولذلك خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء لهم . وهذا كما أن قوله : ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ) [ سورة التوبة : 108 ] نزلت بسبب مسجد قباء ، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك ، وهو مسجد المدينة . وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال : " هو مسجدي هذا " [42] . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشيا وراكبا ، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ، ويأتي قباء يوم [ ص: 75 ] السبت [43] . وكلاهما مؤسس على التقوى . وهكذا أزواجه وعلي وفاطمة والحسن والحسين [44] كلهم من أهل البيت ، لكن عليا وفاطمة ، والحسن والحسين [45] أخص بذلك من أزواجه ، ولهذا خصهم بالدعاء . وقد تنازع الناس في آل محمد : من هم ؟ فقيل : هم [46] أمته . وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم [47] . وقيل : المتقون من أمته . ورووا حديثا : " آل محمد كل مؤمن تقي " رواه الخلال وتمام في " الفوائد " له . وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ، وهو حديث موضوع [48] . وبنى على [49] ذلك طائفة من الصوفية أن آل محمد هم خواص الأولياء ، كما ذكر الحكيم الترمذي . والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته ، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد ، وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم . لكن هل أزواجه من أهل [ ص: 76 ] بيته [50] ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد : أحدهما : أنهن لسن من أهل البيت . ويروى هذا عن زيد بن أرقم . \ 5 [51] . والثاني : - هو الصحيح - أن أزواجه من آله . فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علمهم الصلاة عليه : " اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته " [52] . ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته ، و امرأة لوط من آله وأهل بيته ، بدلالة القرآن . فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته ؟ . ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته ، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى . وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه . كما ثبت في الصحيح أنه قال : " إن آل بني فلان [53] ليسوا لي بأولياء ، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين " [54] . فبين أن أولياءه صالح المؤمنين . وكذلك في حديث آخر : " إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا " [55] . [ ص: 77 ] وقد قال تعالى : ( وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) [ سورة التحريم : 4 ] . وفي الصحاح عنه أنه قال : " وددت أنى رأيت إخواني " ، قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : " بل أنتم أصحابي ، وإخواني [56] قوم يأتون [57] من بعدي يؤمنون بي ولم يروني " [58] . [ ص: 78 ] وإذا كان كذلك فأولياؤه المتقون بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى . وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطينية [59] ، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان . ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون . وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر ، والبر والفاجر . فإن كان فاضلا [60] منهم كعلي - رضي الله عنه - وجعفر والحسن والحسين ، فتفضيلهم [61] بما فيهم من الإيمان والتقوى ، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار ، لا بمجرد النسب ، فأولياؤه أعظم درجة من آله ، وإن صلى على آله تبعا له [62] لم يقتض [63] ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم ، فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه ، وهم أفضل من أهل بيته ، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا ، فالمفضول قد يختص بأمر ، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل . ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلى عليه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين ، فقد [64] ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل [65] منهن كلهن . [ ص: 79 ] فإن قيل : فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس ، لكن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم [66] بذلك يدل على وقوعه ، فإن دعاءه مستجاب [67] . قيل : المقصود أن القرآن لا يدل ما ادعاه من ثبوت [68] الطهارة وإذهاب الرجس ، فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة . وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر . ثم نقول في المقام الثاني : هب أن القرآن دل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم [69] ، كما أن الدعاء المستجاب [70] لا بد أن يتحقق [71] معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم ، لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ . والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ ، فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن ، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس - الذي هو الخبث كالفواحش - ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب . والتطهير من الذنب على وجهين : كما في قوله : ( وثيابك فطهر ) [ سورة المدثر : 4 ] ، وقوله : ( إنهم أناس يتطهرون ) [ سورة الأعراف : 82 ] ، فإنه قال [ ص: 80 ] فيها : ( من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) [ سورة الأحزاب : 30 ] والتطهير عن الذنب إما بأن لا يفعله العبد ، وإما بأن يتوب منه كما في قوله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) [ سورة التوبة : 103 ] [ لكن ] [72] ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة ، لا يتضمن الإذن فيها بحال ، لكن هو سبحانه ينهى عنها ، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها . وفي الصحيح عن النبي أنه كان يقول : " اللهم باعد بيني وبين خطاياي [73] كما باعدت بين المشرق والمغرب ، واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد ، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " [74] . وفي الصحيحين أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك قبل أن يعلم النبي براءتها ، وكان قد ارتاب في أمرها ، فقال : " يا عائشة ، إن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت [ بذنب ] [75] [ ص: 81 ] فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه [76] . وبالجملة لفظ " الرجس " أصله القذر ، ويراد به الشرك ، كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [ سورة الحج : 30 ] . ويراد به الخبائث المحرمة كالمطعومات والمشروبات ، كقوله : ( لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا ) [ سورة الأنعام : 145 ] ، وقوله : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) [ سورة المائدة : 90 ] وإذهاب ذلك إذهاب لكله . ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث . ولفظ " الرجس " عام يقتضي أن الله [ يريد ] أن [77] يذهب جميع الرجس ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بذلك . وأما قوله : " وطهرهم تطهيرا " فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة . وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق ، فيكتفي فيه [78] بفرد من أفراد الطهارة ، ويقول مثل ذلك في قوله : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) [ سورة الحشر : 2 ] ونحو ذلك . والتحقيق أنه أمر بمسمى [79] الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق ، كما إذا قيل : أكرم هذا ; أي : افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما . وكذلك [ ص: 82 ] ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا . والإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة وترك ذلك في نظيرها ، وكذلك لا يقال : هو طاهر ، أو متطهر ، أو مطهر ، إذا كان متطهرا من شيء متنجسا بنظيره . ولفظ " الطاهر " كلفظ الطيب . قال تعالى : ( والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) [ سورة النور : 26 ] ، كما قال : ( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ) [ سورة النور : 26 ] وقد روى أنه قال لعمار : " ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب " [80] . وهذا أيضا كلفظ " المتقي " ولفظ " المزكي " . قال تعالى : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) [ سورة الشمس : 9 - 10 ] . وقال : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) [ سورة التوبة : 103 ] . وقال : ( قد أفلح من تزكى ) [ سورة الأعلى : 104 ] . وقال : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ) [ سورة النور : 21 ] . وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب ، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب . فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين [81] ، ومن فعل ما يكفر سيئاته دخل في المتقين ، [82] كما قال : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) [ سورة النساء : 31 ] . [ ص: 83 ] فدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يطهرهم تطهيرا ، كدعائه بأن يزكيهم ويطيبهم ويجعلهم متقين ونحو ذلك . ومعلوم أن من استقر أمره على ذلك ، فهو داخل في هذا ، لا تكون الطهارة التي دعا بها بأعظم مما دعا به لنفسه . وقد قال : " اللهم طهرني من خطاياي [83] بالثلج والبرد والماء البارد " . فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا فقد طهره الله منه تطهيرا ، ولكن من مات [84] متوسخا بذنوبه ، فإنه لم يطهر منها في حياته . وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس . والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا بدعاء أجابه الله بحسب استعداد المحل ، فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات [85] ، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب ، فإن هذا لو كان واقعا لما عذب مؤمن ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يغفر الله لهذا بالتوبة ، ولهذا بالحسنات الماحية ، ويغفر الله لهذا ذنوبا [86] كثيرة ، وإن واحدة بأخرى . وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله ، والذي دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليس هو العصمة بالاتفاق ، فإن أهل السنة عندهم لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - . والشيعة يقولون : لا معصوم غير النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام . فقد وقع الاتفاق [87] على انتفاء العصمة المختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء [ ص: 84 ] . وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به [88] للأربعة متضمنا للعصمة التي يختص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام عندهم [89] ، فلا يكون من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له [90] بهذه [91] العصمة : لا لعلي [92] ولا لغيره ، فإنه دعا بالطهارة لأربعة مشتركين لم يختص [93] بعضهم بدعوة . وأيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية ، بل وبالتطهير أيضا ; فإن الأفعال الاختيارية - التي هي فعل الواجبات [94] وترك المحرمات - عندهم غير مقدورة للرب ، ولا يمكنه [95] أن يجعل العبد مطيعا ولا عاصيا ، ولا متطهرا من الذنوب ولا غير متطهر ، فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات ، وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر ، كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر ، والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية ، ثم العبد يفعل باختياره : إما الخير وإما الشر بتلك القدرة . وهذا الأصل يبطل حجتهم . والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل ، حيث دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم [96] بالتطهير . فإن قالوا : المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم . [ ص: 85 ] كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة [97] . فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال [ على ] [98] ثبوت العصمة . والعصمة مطلقا - التي هي فعل المأمور وترك المحظور - ليست مقدورة عندهم لله ، ولا [99] يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة ولا تاركا لمعصية ، لا لنبي ولا لغيره ، فيمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه لا بإعانة الله وهدايته [100] . وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة كما تقدم . ولو قدر ثبوت العصمة فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة ولا إجماع [101] على انتفاء العصمة في غيرهم ، وحينئذ فتبطل حجتهم بكل طريق . وأما قوله : " إن عليا ادعاها [102] ، وقد [103] ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا " . فجوابه من وجوه : أحدها : أنا لا نسلم أن عليا ادعاها ، بل نحن نعلم بالضرورة [ علما متيقنا ] [104] أن عليا ما ادعاها قط حتى قتل عثمان ، وإن [105] [ ص: 86 ] كان قد [106] يميل بقلبه إلى أن يولى ، لكن ما قال : إني أنا الإمام ، ولا : إنى معصوم ، ولا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [107] جعلني الإمام بعده ، ولا أنه أوجب على الناس متابعتي ، ولا نحو هذه الألفاظ . بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه . ونحن نعلم أن عليا كان أتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر ، الذي تعلم الصحابة كلهم أنه كذب . وأما نقل الناقل عنه أنه قال : " لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى " . فنقول : أولا : أين إسناد هذا النقل [108] ، بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلا إليه ؟ وهذا لا يوجد قط ، وإنما يوجد مثل هذا في كتاب " نهج البلاغة " وأمثاله ، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي ، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم ، ولا لها إسناد معروف . فهذا الذي نقلها من أين نقلها ؟ . ولكن هذه الخطب بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ، ولا نعلم أحدا من سلفه ادعى ذلك قط ، ولا ادعى ذلك له ، فيعلم كذبه . فإن النسب يكون معروفا من أصله حتى يتصل بفرعه ، وكذلك المنقولات لا بد أن تكون ثابتة معروفة عمن نقل عنه حتى تتصل بنا . فإذا صنف واحد كتابا ذكر فيه خطبا كثيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر [ ص: 87 ] وعمر وعثمان وعلي ، ولم يرو أحد منهم تلك الخطب قبله بإسناد معروف ، علمنا قطعا أن ذلك كذب . وفي هذه الخطب أمور كثيرة قد علمنا [109] يقينا من علي ما يناقضها . ونحن في هذا المقام ليس علينا أن نبين أن هذا كذب ، بل يكفينا المطالبة بصحة النقل ، فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل [110] على صدقه ، بل هذا ممتنع بالاتفاق ، لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق ، فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق ، فكيف يمكن الإنسان أن يثبت ادعاء علي للخلافة بمثل حكاية [111] ذكرت عنه في أثناء المائة الرابعة ; لما كثر الكذابون [112] عليه ، وصار لهم دولة تقبل منهم [113] ما يقولون ، سواء كان صدقا أو كذبا ، وليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل . وهذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر ، وفيما بيننا وبين الله تعالى . ثم نقول [114] : هب أن عليا قال ذلك ، فلم قلت [115] : إنه أراد إني إمام [ معصوم ] [116] منصوص عليه ، ولم لا يجوز أنه أراد أني كنت أحق بها من غيري . لاعتقاده في نفسه أنه أفضل وأحق من غيره ، وحينئذ فلا [117] يكون مخبرا عن أمر تعمد فيه الكذب ، ولكن يكون متكلما باجتهاده ، والاجتهاد يصيب ويخطئ . [ ص: 88 ] ونفي [118] الرجس لا [ يوجب أن ] يكون [119] معصوما من الخطأ بالاتفاق ، بدليل أن الله لم يرد من أهل البيت أن يذهب عنهم الخطأ ، فإن ذلك غير مقدور عليه عندهم ، والخطأ مغفور ، فلا يضر وجوده . وأيضا [ فالخطأ لا يدخل ] [120] فيه عموم الرجس . وأيضا فإنه لا معصوم من أن يقر على خطأ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يخصون ذلك بالأئمة بعده ، وإذهاب الرجس قد اشترك فيه علي وفاطمة وغيرهما من أهل البيت . وأيضا فنحن نعلم أن عليا كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب ، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم كانوا أتقى لله من أن يتعمدوا للكذب . لكن لو قيل لهذا المحتج بالآية : أنت لم تذكر دليلا على أن الكذب من الرجس ، وإذا لم تذكر على ذلك دليلا لم يلزم من إذهاب الرجس إذهاب الكذبة الواحدة ، إذا [121] قدر أن الرجس ذاهب ، فهو فيمن [122] يحتج بالقرآن ، وليس في القرآن ما يدل على إذهاب [123] الرجس ، ولا ما يدل على أن الكذب والخطأ من الرجس ، ولا أن عليا قال ذلك . ولكن هذا كله لو صح شيء منه لم يصح إلا بمقدمات ليست في القرآن ، فأين البراهين التي في القرآن على الإمامة ؟ وهل يدعي هذا إلا من هو من أهل الخزي والندامة ؟ .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية