الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 89 ] فصل قال الرافضي [1] : " البرهان السادس : في [2] قوله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ) إلى قوله : ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) [ سورة النور : 36 - 37 ] [3] قال الثعلبي بإسناده عن أنس [4] وبريدة قالا : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ، فقام رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله فقال : " بيوت الأنبياء " . فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله ، هذا البيت منها ؟ يعني بيت علي وفاطمة [5] . قال : نعم من أفضلها [6] ، وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم ، فيكون علي [7] هو الإمام ، وإلا لزم تقديم المفضول على الفاضل [8] " . والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا النقل . ومجرد عزو ذلك [ ص: 90 ] إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة والشيعة ، وليس كل خبر رواه واحد من الجمهور يكون حجة عند الجمهور ، بل علماء [9] الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به ، لا في فضيلة أبي بكر وعمر ، ولا في إثبات حكم من الأحكام ، إلا أن يعلم ثبوته بطريق [10] ، فليس له أن يقول : إنا نحتج عليكم بالأحاديث التي يرويها [ واحد من ] الجمهور [11] ، فإن هذا بمنزلة من يقول : أنا أحكم عليكم بمن يشهد [12] عليكم من الجمهور ، فهل يقول أحد من علماء الجمهور : إن كل من شهد [13] منهم فهو عدل ، أو قال [14] أحد من علمائهم : إن كل من روى منهم [15] حديثا كان صحيحا . ثم [16] علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف ، ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك . ولهذا يقولون في الثعلبي [17] وأمثاله : إنه حاطب ليل يروي ما وجد ، سواء كان صحيحا أو سقيما . فتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ، ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم . [ ص: 91 ] ولهذا لما اختصره أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي - وكان أعلم بالحديث والفقه منه ، والثعلبي أعلم بأقوال المفسرين - [ ذكر البغوي عنه أقوال المفسرين ] [18] والنحاة وقصص الأنبياء ، فهذه الأمور نقلها البغوي من الثعلبي ، وأما الأحاديث فلم يذكر في تفسيره شيئا من الموضوعات التي رواها الثعلبي ، بل يذكر الصحيح منها ويعزوه إلى البخاري وغيره ، فإنه مصنف كتاب " شرح السنة " وكتاب " المصابيح " وذكر ما في الصحيحين والسنن ، ولم يذكر الأحاديث التي تظهر لعلماء الحديث أنها موضوعة ، كما يفعله غيره من المفسرين ، كالواحدي صاحب الثعلبي ، وهو أعلم بالعربية منه ، وكالزمخشري وغيرهم من المفسرين الذين يذكرون من الأحاديث ما يعلم أهل الحديث أنه موضوع [19] . الثاني : أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث ، ولهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد في الحديث عليها ، كالصحاح والسنن والمساند [20] ، مع أن في بعض هذه [21] ما هو ضعيف ، بل ما يعلم أنه كذب ، لكن هذا قليل جدا . وأما هذا الحديث [22] وأمثاله فهو أظهر كذبا من أن يذكروه في مثل ذلك . الثالث : أن يقال : الآية باتفاق الناس هي في المساجد [23] ، كما قال : [ ص: 92 ] : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ) الآية [ سورة النور : 36 ] وبيت علي وغيره [24] ليس موصوفا [25] بهذه الصفة . الرابع : أن يقال : بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من بيت علي باتفاق المسلمين ، ومع هذا لم يدخل في هذه الآية ; لأنه ليس في بيته رجال ، وإنما فيه هو والواحدة من نسائه ، ولما أراد بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تدخلوا بيوت النبي ) [ سورة الأحزاب : 53 ] وقال : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن ) [ سورة الأحزاب : 34 ] . الوجه الخامس : أن قوله : " هي بيوت الأنبياء " كذب ; فإنه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب . وقوله : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) [ سورة النور : 36 - 37 ] متناول لكل من كان بهذه الصفة . الوجه السادس : أن قوله : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) نكرة موصوفة ليس فيها تعيين [26] . وقوله : ( أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) : إن أراد بذلك ما لا يختص به المساجد من الذكر في البيوت [27] والصلاة فيها ، دخل في ذلك بيوت أكثر المؤمنين المتصفين بهذه الصفة ، فلا تختص بيوت الأنبياء . [ ص: 93 ] وإن أراد بذلك ما يختص به المساجد من وجود الذكر في الصلوات الخمس ونحو ذلك ، كانت مختصة بالمساجد . وأما بيوت الأنبياء فليس فيها خصوصية المساجد ، وإن كان لها فضل بسكنى الأنبياء فيها . الوجه السابع : أن يقال : إن أريد ببيوت الأنبياء ما سكنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فليس في المدينة من بيوت الأنبياء إلا بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يدخل فيها بيت علي . وإن أريد ما دخله الأنبياء ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد [28] دخل بيوت كثير من الصحابة . وأي تقدير قدر في الحديث لا يمكن تخصيص بيت علي بأنه [29] من بيوت الأنبياء ، دون بيت أبي بكر وعمر وعثمان ونحوهم . وإذا لم يكن له اختصاص ، فالرجال مشتركون بينه وبين غيره . الوجه الثامن : أن يقال : قوله : الرجال المذكورون موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، ليس [30] في الآية ما يدل على أنهم أفضل من غيرهم ، وليس فيها ذكر ما وعدهم الله به من الخير ، وفيها الثناء عليهم [31] ، ولكن ليس [32] كل من أثني عليه أو وعد [33] بالجنة يكون أفضل من غيره ، ولهذا لم يلزم [34] أن يكون هو أفضل من الأنبياء . [ ص: 94 ] الوجه التاسع : أن يقال : هب أن هذا يدل على أنهم أفضل ممن ليس كذلك من هذا الوجه ، لكن لم قلت : إن هذه الصفة مختصة بعلي ؟ بل كل [35] من كانت لا تلهيه التجارة والبيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ويخاف يوم القيامة ، فهو متصف بهذه الصفة . فلم قلت [36] : إنه ليس متصف بذلك إلا عليا ؟ ولفظ الآية يدل على أنهم رجال ليسوا رجلا واحدا ، فهذا دليل على أن هذا لا يختص بعلي ، بل هو وغيره مشتركون فيها . وحينئذ فلا يلزم أن يكون أفضل من المشاركين له فيها . الوجه العاشر : أنه لو سلم أن عليا أفضل من غيره في هذه الصفة ، فلم قلت : إن ذلك يوجب الإمامة ؟ . وأما امتناع تقديم المفضول على الفاضل إذا سلم ، فإنما هو في [37] مجموع الصفات التي تناسب الإمامة ، وإلا فليس كل من فضل في خصلة من الخير استحق أن يكون هو الإمام . ولو جاز هذا لقيل : ففي الصحابة من قتل من الكفار أكثر مما قتل علي ، وفيهم من أنفق من ماله أكثر مما أنفق علي ، وفيهم من كان أكثر صلاة وصياما من علي ، [38] وفيهم من أوذي في الله أكثر من علي ، وفيهم من كان أسن من علي [39] ، وفيهم من كان عنده من العلم ما ليس عند علي . وبالجملة لا يمكن أن يكون واحد من الأنبياء [40] له مثل ما لكل واحد من الأنبياء [41] من كل وجه ، ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل أحد [ ص: 95 ] من الصحابة من كل وجه ، بل يكون في المفضول نوع من الأمور التي يمتاز بها عن الفاضل ، ولكن الاعتبار في التفضيل بالمجموع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية