الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل قال الرافضي : [1] " البرهان الثامن : قوله تعالى : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ) [ سورة البقرة : 7 - 2 ] . قال الثعلبي : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب [2] لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده ، وأمره [3] ليلة خرج إلى الغار ، وقد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه ، فقال له : يا علي ، اتشح ببردي الحضرمي الأخضر [4] ، ونم على فراشي ، فإنه لا يخلص [5] إليك منهم مكروه - إن شاء الله [ ص: 111 ] [ تعالى ] [6] ، ففعل ذلك ، فأوحى الله تعالى [7] إلى جبريل [8] وميكائيل أني قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما [9] أطول من عمر الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى الله . [10] إليها : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد - عليه الصلاة والسلام - فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه . فنزلا ، فكان جبريل [11] عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، فقال جبريل : بخ بخ [12] من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي [13] الله بك الملائكة ؟ فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي [14] : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) [ سورة البقرة : 207 ] . وقال ابن عباس : إنما نزلت في علي [15] لما هرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين إلى الغار ، وهذه [ ص: 112 ] فضيلة [16] لم تحصل لغيره تدل على أفضلية علي على [17] جميع الصحابة [18] ، فيكون هو الإمام " . الجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا النقل . ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك ، بل روايتهم ، ليس بحجة باتفاق طوائف [ أهل ] [19] السنة والشيعة . لأن هذا مرسل [20] متأخر ، ولم يذكر إسناده ، وفي نقله من [21] هذا الجنس للإسرائيليات والإسلاميات أمور يعلم أنها باطلة ، وإن كان هو لم يتعمد [22] الكذب . ثانيها : أن هذا الذي نقله من هذا الوجه [23] كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسيرة [24] ، والمرجع إليهم في هذا الباب . الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي ، وإنما كان مطلوبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ، وجعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به ، كما ثبت ذلك في الصحيح الذي لا يستريب أهل العلم في صحته [25] ، وترك عليا في [26] [ ص: 113 ] فراشه ليظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت فلا يطلبوه ، فلما أصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم ، ولم يؤذوا عليا ، بل سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرهم أنه لا علم له به ، ولم يكن هناك خوف على علي من أحد [27] ، وإنما كان الخوف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه ، ولو كان لهم في علي غرض لتعرضوا له لما وجدوه ، فلما لم يتعرضوا له دل على أنهم [28] لا غرض لهم فيه ، فأي فداء هنا بالنفس ؟ . والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب ، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه ، ويكون الضرر به دونه ; هو أبو بكر . كان يذكر الطلبة فيكون خلفه ، ويذكر الرصد فيكون أمامه ، وكان يذهب فيكشف له الخبر . وإذا [ كان ] [29] هناك ما يخاف أحب أن يكون به لا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وغير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب ، فمنهم من قتل بين يديه ، ومنهم من شلت يده ، كطلحة بن عبد الله . وهذا واجب على المؤمنين كلهم . فلو قدر أنه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة ، فكيف إذا لم يكن هناك خوف على علي ؟ . قال : ابن إسحاق في " السيرة " - مع أنه من المتولين [30] لعلي المائلين إليه - وذكر خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من منزله ، واستخلاف علي على فراشه ليلة مكر الكفار به ، قال [31] : " فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 114 ] فقال له [32] : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه . قال : فلما كانت عتمة الليل [33] اجتمعوا على بابه يرصدونه متى [34] ، ينام ، فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامهم قال لعلي [35] : نم على فراشي واتشح [36] ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم فيه [37] ، فإنه لن يخلص [38] إليك شيء تكرهه منهم . وعن محمد بن كعب القرظي [39] قال : لما اجتمعوا له ، وفيهم : أبو جهل [40] ، فقال وهم على بابه : إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ، ثم بعثتم [ من ] [41] بعد موتكم ، فجعلت لكم جنات كجنات [42] الأردن ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ، ثم بعثتم من بعد موتكم ، فجعلت [43] لكم نار تحرقون فيها . قال : وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم [44] ، فأخذ حفنة [45] [ ص: 115 ] من تراب في يده ، ثم قال : نعم [46] أنا أقول ذلك ، أنت [47] أحدهم . وأخذ الله على أبصارهم عنه ، فلا يرونه [48] . . . ولم يبق منهم رجلا إلا وضع على [49] رأسه ترابا ، ثم انصرف [50] إلى حيث أراد أن يذهب ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال : ما تنتظرون هاهنا ؟ قالوا [51] : محمدا . قال : خيبكم الله ! قد والله خرج عليكم محمد ، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، وانطلق لحاجته [52] ، أفما ترون ما بكم [53] ؟ قال : فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، فإذا عليه تراب ، ثم جعلوا يطلعون [54] فيرون عليا على الفراش مسجى [55] ببرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيقولون : والله إن هذا لمحمد نائما ، عليه بردة . فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا . فقام علي عن الفراش ، فقالوا : والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا [56] وكان مما أنزل الله [ من القرآن ] ذلك اليوم [57] : ( [ ص: 116 ] وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) [ سورة الأنفال : 30 ] وقوله : ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ) الآية [ سورة الطور : 30 ] وأذن الله لنبيه [58] في الهجرة عند ذلك [59] " . فهذا يبين أن القوم لم يكن لهم غرض في علي أصلا . وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - [60] قد قال : " اتشح ببردي هذا الأخضر ، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه " . فوعده - وهو الصادق - أنه لا يخلص إليه مكروه ، وكان طمأنينته بوعد الرسول [ - صلى الله عليه وسلم - ] [61] . الرابع : أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى ، فإن الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم ، وليس أحدهما جائعا فيؤثره الآخر بالطعام ، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالأمن[62] ، فكيف يقول الله لهما : أيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل ، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل ، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل ، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل ، وأن الرزق والمطر لميكائيل . [ ص: 117 ] ثم إن كان الله قضى بأن عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه ، وإن قضاه لواحد وأراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول ، أو يؤثر به أحدهما الآخر ، وهما راضيان بذلك ، فلا كلام . وأما إن كانا يكرهان ذلك ، فكيف يليق بحكمة الله ورحمته أن يحرش بينهما ، ويلقي بينهما العداوة ؟ ولو كان ذلك حقا - تعالى الله عن ذلك - ثم هذا القدر لو وقع مع أنه باطل ، فكيف تأخر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة ؟ وإنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما . الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليا ولا غيره ، بل كل ما روي في هذا فهو كذب . وحديث المؤاخاة الذي يروى في ذلك - مع ضعفه وبطلانه - إنما فيه مؤاخاته له في المدينة ، هكذا رواه الترمذي [63] ، فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين . وأيضا فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل . السادس : أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من [ ص: 118 ] أعظم المنكرات ; فإن الله يحفظ من شاء [64] من خلقه بدون هذا . وإنما روي هبوطهما يوم بدر للقتال ، وفي مثل تلك الأمور [65] العظام ، ولو نزلا لحفظ واحد [66] من الناس لنزلا لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه ، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه ، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته ، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد . السابع : أن هذه الآية في سورة البقرة ، وهي مدنية بلا خلاف ، وإنما نزلت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، لم تنزل وقت هجرته [67] . وقد قيل : إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون ، فأعطاهم ماله ، وأتى المدينة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ربح البيع أبا يحيى " . وهذه القصة مشهورة في التفسير ، نقلها غير واحد [68] . وهذا ممكن ; فإن صهيبا هاجر من مكة إلى المدينة . قال ابن جرير [69] : " اختلف [70] أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية [ فيه ] [71] ، ومن عني بها [ ص: 119 ] فقال بعضهم : نزلت في المهاجرين والأنصار ، وعني بها المجاهدون في سبيل الله " . وذكر بإسناده هذا القول [72] " وعن قتادة قال : وقال بعضهم : نزلت في قوم بأعيانهم [73] " وروى عن " القاسم قال : حدثنا الحسين [74] ، حدثنا حجاج [75] ، حدثنا ابن جريج [76] ، عن عكرمة [77] قال : نزلت في صهيب وأبي ذر جندب [78] ، أخذ أهل أبي ذر [ أبا ذر ] [79] فانفلت [80] منهم ، فقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رجع مهاجرا عرضوا له ، وكانوا [81] بمر الظهران ، فانفلت [82] أيضا حتى قدم عليه [83] ، وأما صهيب فأخذ أهله ، فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان [84] ، [ ص: 120 ] فخرج له مما [85] بقي من ماله فخلى [86] سبيله [87] " . وقال آخرون : عني [88] [ بذلك ] [89] كل شار نفسه في طاعة الله [90] وجهاد [91] في سبيل الله ، وأمر [92] بمعروف " . ونسب هذا القول إلى عمر بل وابن عباس ، وأن صهيبا كان سبب النزول [93] . الثامن : أن لفظ الآية مطلق ، ليس فيه تخصيص . فكل من باع نفسه ابتغاء مرضات الله فقد دخل فيها . وأحق من دخل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه فإنهما شريا نفسهما [94] ابتغاء مرضات الله ، وهاجرا في سبيل الله ، والعدو يطلبهما من كل وجه . التاسع : أن قوله : " هذه فضيلة لم تحصل لغيره [ فدل على أفضليته ] [95] فيكون هو الإمام " [96] . [ ص: 121 ] فيقال [97] : لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنة والإجماع ، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة ، فيكون هو الإمام . فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه . يقول الله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ سورة التوبة : 40 ] . ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعا ، بخلاف الوقاية بالنفس ، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه . وهذا واجب على كل مؤمن ، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة . والأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات . يبين ذلك أنه لم ينقل أحد أن عليا أوذي في مبيته [98] على فراش النبي ، وقد أوذي غيره في وقايتهم [99] النبي - صلى الله عليه وسلم - : تارة بالضرب ، وتارة بالجرح ، وتارة بالقتل . فمن فداه وأوذي أعظم ممن فداه ولم يؤذ . وقد قال العلماء : ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة ، شاركه فيها غيره ، بخلاف الصديق ، فإن كثيرا من فضائله - وأكثرها - خصائص له ، لا يشركه فيها غيره . وهذا مبسوط في موضعه [100] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية