الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 122 ] فصل قال الرافضي [1] : " البرهان التاسع : قوله تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) [ سورة آل عمران : 61 ] . نقل الجمهور كافة أن " أبناءنا " إشارة إلى الحسن والحسين ، و " نساءنا " إشارة إلى فاطمة . و " أنفسنا " إشارة إلى علي [2] . وهذه الآية دليل [3] على ثبوت الإمامة لعلي لأنه تعالى \ قد جعل نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والاتحاد محال ، فيبقى المراد بالمساواة له الولاية [4] . وأيضا لو كان غير هؤلاء مساويا لهم وأفضل [5] منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة ، وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم [6] . وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا [ على ] [7] من استحوذ الشيطان عليه ، وأخذ بمجامع [ ص: 123 ] قلبه ، وحببت إليه الدنيا [8] التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من [9] حقهم ؟ " . والجواب أن يقال : " أما أخذه عليا [ وفاطمة ] [10] والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح ، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص . قال في حديث طويل [11] : " لما نزلت هذه الآية : ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) [ سورة آل عمران : 61 ] [12] دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : " اللهم هؤلاء أهلي " . ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية . وقوله : " قد جعله الله نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والاتحاد محال ، فبقى المساواة له [13] ، وله الولاية العامة ، فكذا المساوية " [14] . قلنا : لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة ، ولا دليل على ذلك ، بل حمله على ذلك ممتنع ، لأن أحدا لا يساوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا عليا [15] ولا غيره [ ص: 124 ] وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة . قال تعالى في قصة الإفك : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) [ سورة النور : 12 ] ، ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين . وقد قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل : ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ) [ سورة البقرة : 54 ] ، أي : يقتل بعضكم بعضا ، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين ، ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده . وكذلك قد قيل في قوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ سورة النساء : 29 ] أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، وإن كانوا غير متساوين . وقال تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) [ سورة الحجرات : 11 ] : أي لا يلمز بعضكم بعضا ; فيطعن عليه ويعيبه . وهذا نهي لجميع المؤمنين ، أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن والعيب ، مع أنهم غير متساوين لا في الأحكام ، ولا في الفضيلة ولا الظالم كالمظلوم ، ولا الإمام كالمأموم . ومن هذا الباب قوله تعالى : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) [ سورة البقرة : 85 ] : أي يقتل بعضكم بعضا . وإذا كان اللفظ في قوله : ( وأنفسنا وأنفسكم ) كاللفظ في قوله : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) [ سورة الحجرات : 11 ] ، ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) [ سورة النور : 12 ] ونحو ذلك ، مع أن التساوي هنا ليس بواجب بل ممتنع ، فكذلك هناك وأشد . بل هذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة . والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك [ ص: 125 ] في [ بعض الأمور ، كالاشتراك في ] الإيمان [16] ، فالمؤمنون إخوة في الإيمان ، وهو المراد بقوله : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) [ سورة النور : 12 ] ، وقوله : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) [ سورة الحجرات : 11 ] . وقد يكون بالاشتراك في الدين ، وإن كان فيهم المنافق ، كاشتراك المسلمين في الإسلام الظاهر ، وإن كان مع ذلك الاشتراك في النسب فهو أوكد . وقوم موسى كانوا أنفسنا [17] بهذا الاعتبار . قوله تعالى : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) [ سورة آل عمران : 61 ] أي رجالنا ورجالكم ، أي الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب ، والرجال الذين هم من جنسكم . أو المراد [18] التجانس في القرابة فقط ; لأنه قال : ( أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) فذكر الأولاد وذكر [ النساء ] [19] والرجال ، فعلم أنه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث ، من الأولاد والعصبة . ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء ، ودعا فاطمة من النساء ، ودعا عليا من رجاله [20] ، ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء ، وهم الذين أدار عليهم الكساء . والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه ، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في [ ص: 126 ] النسب ، وإن كانوا أفضل عند الله ، لم يحصل المقصود ; فإن المراد أنهم يدعون الأقربين ، كما يدعو هو [21] الأقرب إليه . والنفوس تحنو على أقاربها ما لا تحنو على غيرهم ، وكانوا يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويعلمون أنهم إن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم ، واجتمع خوفهم [22] على أنفسهم وعلى أقاربهم ، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم ، وإلا فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه ، والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقي أقاربه في نعمة ومال . وهذا موجود كثير . فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين ، فلهذا دعا هؤلاء . وآية المباهلة نزلت سنة عشر ; لما قدم وفد نجران ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بقي من أعمامه إلا العباس ، والعباس لم يكن من السابقين الأولين ، ولا كان له به اختصاص كعلي . وأما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي ، وكان جعفر قد قتل قبل ذلك . فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر ، وجعفر قتل بمؤتة سنة ثمان ، فتعين علي - رضي الله عنه - . وكونه تعين للمباهلة ; إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه ، لا يوجب أن يكون مساويا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأشياء ، بل ولا أن يكون [23] أفضل من سائر الصحابة مطلقا ، بل له بالمباهلة نوع فضيلة ، [ ص: 127 ] وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين ، ليست من خصائص الإمامة ، فإن خصائص الإمامة لا تثبت للنساء ، ولا يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة ، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية