الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الخامس عشر : قوله تعالى : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) [ سورة محمد : 30 ] . روى أبو نعيم [2] بإسناده عن [3] أبي سعيد الخدري ، في قوله تعالى : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) قال : ببغضهم عليا . ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك ، فيكون أفضل منهم ، فيكون هو الإمام " .

                  والجواب : المطالبة بصحة النقل أولا .

                  والثاني : أن هذا من الكذب على أبي سعيد عند أهل المعرفة بالحديث [4] .

                  الثالث : أن يقال : لو ثبت أنه قاله ، فمجرد قول أبي سعيد قول واحد من الصحابة ، وقول الصاحب إذا خالفه صاحب آخر ليس بحجة باتفاق [ ص: 147 ] أهل العلم . وقد علم قدح كثير من الصحابة في علي ، وإنما احتج عليهم بالكتاب والسنة ، لا بقول آخر من الصحابة .

                  الرابع : أنا نعلم بالاضطرار أن عامة المنافقين لم يكن ما يعرفون به من [5] لحن القول هو بغض علي ، فتفسير القرآن بهذا فرية ظاهرة .

                  الخامس : أن عليا لم يكن أعظم معاداة للكفار والمنافقين من عمر ، بل * ولا نعرف أنهم كانوا يتأذون منه كما يتأذون من عمر ، بل ولا نعرف أنهم كانوا يتأذون منه إلا وكان بغضهم لعمر أشد * [6] .

                  السادس : أنه في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " آية الإيمان حب الأنصار [7] ، وآية النفاق بغض الأنصار " . وقال : " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر " [8] . فكان معرفة المنافقين في لحنهم ببغض الأنصار أولى .

                  فإن هذه الأحاديث أصح مما يروى عن علي ، أنه قال : [ إنه ] [9] لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " . فإن هذا من أفراد مسلم ، وهو من رواية عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش عن علي [10] ، والبخاري أعرض عن هذا الحديث ، بخلاف أحاديث الأنصار ، [ ص: 148 ] فإنها مما اتفق عليه أهل الصحيح كلهم : البخاري وغيره ، وأهل العلم يعلمون يقينا [11] أن النبي قاله ، وحديث علي قد شك فيه بعضهم .

                  السابع : أن علامات النفاق كثيرة ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " [12] . فهذه علامات ظاهرة . فعلم أن علامات النفاق لا تختص بحب شخص أو طائفة ولا بغضهم ، إن كان ذلك من العلامات . ولا ريب أن من أحب عليا لله بما يستحقه من المحبة لله ، فذلك من الدليل على إيمانه ، وكذلك من أحب الأنصار ; لأنهم نصروا الله ورسوله ، فذلك من علامات إيمانه ، ومن أبغض عليا والأنصار لما فيهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ; فهو منافق .

                  وأما من أحب الأنصار أو عليا أو غيرهم لأمر طبيعي مثل قرابة بينهما ، فهو كمحبة أبي طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لا ينفعه عند الله ومن غلا في الأنصار ، أو في علي أو في المسيح أو في نبي فأحبه واعتقد فيه فوق مرتبته فإنه لم يحبه في الحقيقة ، إنما أحب ما لا وجود له ، كحب النصارى للمسيح ، فإن المسيح أفضل من علي .

                  وهذه المحبة لا تنفعهم ، فإنه إنما ينفع الحب لله ، لا الحب مع الله .

                  قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) [ ص: 149 ] ومن قدر أنه سمع عن بعض الأنصار أمرا يوجب [13] بغضه فأبغضه لذلك ، كان ضالا مخطئا ، ولم يكن منافقا بذلك . وكذلك من اعتقد في بعض الصحابة اعتقادا غير مطابق ، وظن فيه أنه كان كافرا أو فاسقا فأبغضه لذلك كان جاهلا ظالما ولم يكن منافقا .

                  وهذا مما يبين به كذب ما يروى عن بعض الصحابة كجابر ، أنه قال : " ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ببغضهم علي بن أبي طالب " فإن هذا النفي من أظهر الأمور كذبا ، لا يخفى بطلان هذا النفي على [ آحاد الناس ، فضلا عن أن يخفى مثل ذلك على ] [14] جابر أو نحوه .

                  فإن الله قد ذكر في سورة التوبة وغيرها من علامات المنافقين وصفاتهم أمورا متعددة ، ليس في شيء منها بغض علي .

                  كقوله [15] ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ) [ سورة التوبة : 49 ] .

                  وقوله : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) [ سورة التوبة : 58 ] .

                  وقوله : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ) [ سورة التوبة : 61 ] .

                  وقوله : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ) [ ص: 150 ] [ سورة التوبة : 75 ] إلى قوله ( وبما كانوا يكذبون ) [ سورة التوبة : 77 ] . إلى أمثال ذلك من الصفات التي يصف بها المنافقين [16] ، وذكر علاماتهم وذكر الأسباب الموجبة للنفاق .

                  وكل ما كان موجبا للنفاق فهو دليل عليه وعلامة له . فكيف يجوز لعاقل أن يقول : لم يكن للمنافقين علامة [ يعرفون بها ] [17] غير [18] بغض علي ؟ وقد كان من علامتهم التخلف عن الجماعة ، كما في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : أيها الناس حافظوا على [ هؤلاء ] [19] الصلوات الخمس حيث ينادى بهن [20] ، فإنهن من سنن الهدى ، وإن الله [21] شرع لنبيه سنن الهدى ، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، [22] ولو تركتم سنة نبيكم [23] لضللتم ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها [24] إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف [25] " [ ص: 151 ] وعامة علامات النفاق وأسبابه ليست في أحد من أصناف الأمة أظهر منها في الرافضة ، حتى يوجد فيهم من النفاق الغليظ الظاهر ما لا يوجد في غيرهم . وشعار دينهم " التقية " التي هي أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وهذا علامة النفاق .

                  كما قال الله تعالى : ( وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ) [ سورة آل عمران : 166 - 167 ] .

                  وقال تعالى : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ) [ سورة التوبة : 74 ] [26] .

                  وقال تعالى : ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) [ سورة البقرة : 10 ] وفيها قراءتان [27] : يكذبون ، ويكذبون [28] .

                  وفي الجملة [ فعلامات ] [29] النفاق مثل الكذب والخيانة وإخلاف [30] الوعد والغدر لا يوجد في طائفة أكثر منها في الرافضة . وهذا من صفاتهم القديمة ، حتى إنهم كانوا يغدرون بعلي وبالحسن والحسين [ ص: 152 ] وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف [31] ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " [32] . وهذا لبسطه موضوع آخر .

                  والمقصود هنا أنه يمتنع أن يقال : لا علامة للنفاق إلا بغض علي ، ولا يقول هذا أحد من الصحابة ، لكن الذي قد يقال : إن بغضه من علامات النفاق ، كما في الحديث المرفوع : " لا يبغضني إلا منافق " [33] ، فهذا يمكن توجيهه ، فإنه من علم ما قام به علي - رضي الله عنه - من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ، ثم أبغضه على ذلك ، فهو منافق .

                  ونفاق من يبغض الأنصار أظهر ; فإن الأنصار قبيلة عظيمة لهم مدينة ، وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ، وبالهجرة إلى دارهم عز الإيمان ، واستظهر أهله ، وكان لهم من نصر الله ورسوله ما لم يكن لأهل مدينة غيرهم ، ولا لقبيلة سواهم ، فلا يبغضهم إلا منافق . ومع هذا فليسوا بأفضل من المهاجرين ، بل المهاجرون أفضل منهم .

                  فعلم أنه لا يلزم من كون بغض الشخص من علامات النفاق أن يكون أفضل من غيره . ولا يشك من عرف أحوال الصحابة أن عمر كان أشد عداوة للكفار والمنافقين من علي ، وأن تأثيره في نصر الإسلام وإعزازه [ ص: 153 ] وإذلال الكفار والمنافقين أعظم من تأثير علي ، وأن الكفار والمنافقين أعداء الرسول يبغضونه أعظم مما يبغضون عليا .

                  ولهذا كان الذي قتل عمر كافرا يبغض دين الإسلام ، ويبغض الرسول وأمته فقتله بغضا للرسول ودينه وأمته . والذي قتل عليا كان يصلي ويصوم ويقرأ القرآن ، وقتله معتقدا أن الله ورسوله يحب قتل علي ، وفعل ذلك محبة لله ورسوله - في زعمه - وإن كان في ذلك ضالا مبتدعا .

                  والمقصود أن النفاق في بغض عمر أظهر منه في بغض علي . ولهذا لما كان الرافضة من أعظم الطوائف نفاقا كانوا يسمون عمر فرعون الأمة . وكانوا يوالون أبا لؤلؤة - قاتله الله - الذي هو من أكفر الخلق وأعظمهم عداوة لله ولرسوله [34] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية