الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : البرهان السادس عشر : قوله تعالى : ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ) [ سورة الواقعة : 10 - 11 ] [2] . روى أبو نعيم [3] عن ابن عباس [4] في هذه الآية : سابق هذه الأمة [ ص: 154 ] علي بن أبي طالب . روى [5] الفقيه ابن المغازلي [6] الشافعي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( والسابقون السابقون ) قال : سبق يوشع بن نون إلى موسى ، وسبق موسى إلى هارون ، وسبق صاحب يس إلى عيسى ، وسبق علي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - [7] . وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ، فيكون هو الإمام [8] " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل ، فإن الكذب كثير فيما يرويه هذا وهذا .

                  الثاني : أن هذا باطل عن ابن عباس ، ولو صح عنه [9] لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه [10] .

                  الثالث : أن الله يقول : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ) [ سورة التوبة : 100 ] [ ص: 155 ] وقال تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) الآية [ سورة فاطر : 32 ] .

                  والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، فكيف يقال : إن سابق هذه الأمة واحد ؟ !

                  الرابع : قوله : " وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة " ممنوع ; فإن الناس متنازعون في أول من أسلم ، فقيل : أبو بكر أول من أسلم ، فهو أسبق إسلاما من علي . وقيل : إن عليا أسلم قبله . لكن علي كان صغيرا ، وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء . ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع ، فيكون هو أكمل سبقا بالاتفاق ، وأسبق على الإطلاق على القول الآخر . فكيف يقال : علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك .

                  الخامس : أن هذه الآية فضلت السابقين [11] الأولين ، ولم تدل على أن كل من كان أسبق إلى الإسلام كان أفضل من غيره . وإنما يدل على أن السابقين أفضل - قوله تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] ، فالذين سبقوا إلى الإنفاق والقتال قبل الحديبية أفضل ممن بعدهم ، فإن الفتح فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية .

                  وإذا كان أولئك السابقون قد سبق بعضهم بعضا إلى الإسلام ، فليس [ ص: 156 ] في الآيتين ما يقتضي أن يكون أفضل مطلقا ، بل قد يسبق [12] إلى الإسلام من سبقه غيره إلى الإنفاق والقتال .

                  ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - ممن أسلم بعد تسعة وثلاثين ، وهو أفضل من أكثرهم بالنصوص الصحيحة ، وبإجماع الصحابة والتابعين ، وما علمت أحدا قط قال : إن الزبير ونحوه أفضل من عمر ، والزبير أسلم قبل عمر . ولا قال من يعرف من أهل [ العلم ] [13] : إن عثمان أفضل من عمر ، وعثمان أسلم قبل عمر .

                  وإن كان الفضل بالسبق إلى الإنفاق والقتال فمعلوم أن أبا بكر أخص بهذا ، فإنه لم يجاهد قبله أحد : لا بيده ولا بلسانه ، بل هو من حين آمن بالرسول ينفق ماله ويجاهد بحسب الإمكان ، فاشترى من المعذبين في الله غير واحد ، وكان يجاهد مع الرسول قبل الأمر بالقتال [14] وبعد الأمر بالقتال [15] . كما قال تعالى : ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) [ سورة الفرقان : 52 ] فكان أبو بكر أسبق الناس وأكملهم في أنواع الجهاد بالنفس والمال .

                  ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " إن أمن الناس علي [16] في صحبته وذات يده - أبو بكر " [17] . والصحبة بالنفس ، وذات اليد هو المال ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمن الناس عليه في النفس والمال .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية