فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان الثالث والثلاثون : قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) [ سورة البينة : 7 ] . روى الحافظ أبو نعيم بإسناده إلى لما ابن عباس [2] نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي [3] : [ تأتي ] أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين [4] ، ويأتي خصماؤك [ ص: 259 ] غضابا مفحمين [5] ، وإذا كان خير البرية ، وجب أن يكون هو الإمام " .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل ، وإن كنا غير مرتابين في كذب ذلك ، لكن مطالبة المدعي بصحة النقل لا يأباه إلا معاند . ومجرد . رواية أبي نعيم ليست بحجة باتفاق طوائف المسلمين
الثاني : أن هذا مما هو كذب موضوع باتفاق [ العلماء و ] أهل المعرفة [6] بالمنقولات .
الثالث : أن يقال : هذا معارض بمن يقول : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب ، كالخوارج وغيرهم [7] . ويقولون : إن من تولاه فهو كافر مرتد ، فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويحتجون على ذلك بقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ سورة المائدة : 44 ] قالوا : ومن حكم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافرا ، ومن تولى الكافر [8] فهو كافر ; لقوله : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم [9] وقالوا : إنه هو ومن تولاهما مرتدون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وعثمان " ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، فأقول : أي رب أصحابي أصحابي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم [10] .
[ ص: 260 ] * قالوا : وهؤلاء هم الذين [11] حكموا في دماء المسلمين وأموالهم بغير ما أنزل الله .
واحتجوا بقوله : " [12] يضرب بعضكم رقاب بعض " لا ترجعوا بعدي كفارا * [13] . قالوا : والذين [14] ضرب بعضهم رقاب بعض رجعوا بعده كفارا .
فهذا وأمثاله من حجج الخوارج ، وهو وإن كان باطلا بلا ريب فحجج الرافضة أبطل منه ، والخوارج أعقل وأصدق وأتبع للحق من الرافضة ; فإنهم صادقون لا يكذبون ، أهل دين ظاهرا وباطنا ، لكنهم ضالون جاهلون مارقون ، مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، وأما الرافضة فالجهل والهوى والكذب غالب عليهم ، وكثير من أئمتهم وعامتهم زنادقة ملاحدة ، ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين ، بل : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) [ سورة النجم : 33 ] .
[ ص: 261 ] والمروانية الذين قاتلوا [15] ، وإن كانوا لا يكفرونه ، فحججهم أقوى من حجج عليا الرافضة . وقد صنف كتابا الجاحظ للمروانية ذكر فيه من الحجج التي لهم ما لا يمكن الرافضة نقضه ، بل لا يمكن الزيدية نقضه ، دع الرافضة !
أهل السنة [16] والجماعة لما كانوا معتدلين [17] متوسطين صارت الشيعة تنتصر بهم فيما يقولونه في حق من الحق ، ولكن أهل السنة قالوا ذلك بأدلة يثبت علي [18] بها فضل الأربعة وغيرهم من الصحابة ، ليس مع أهل السنة ولا غيرهم حجة تخص بالمدح وغيره بالقدح ، فإن عليا [19] هذا ممتنع لا ينال إلا بالكذب المحال ، لا بالحق المقبول في ميدان النظر والجدال .
الوجه الرابع : أن يقال : قوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ سورة البينة : 7 ] عام في كل من اتصف بذلك [20] ، فما الذي أوجب تخصيصه بالشيعة ؟ .
فإن قيل [21] ; لأن من سواهم كافر .
قيل : إن ثبت [22] كفر من سواهم بدليل ، كان ذلك مغنيا لكم عن هذا التطويل ، وإن لم يثبت لم ينفعكم هذا الدليل ، فإنه من جهة النقل لا يثبت ، فإن أمكن إثباته بدليل منفصل ، فذاك هو الذي يعتمد عليه لا هذه الآية .
[ ص: 262 ] الوجه الخامس : أن يقال : من المعلوم المتواتر أن كان يوالي غير ابن عباس شيعة علي أكثر مما يوالي كثيرا من الشيعة ، حتى الخوارج كان يجالسهم ويفتيهم ويناظرهم . فلو اعتقد أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الشيعة فقط ، وأن من سواهم كفار ، لم يعمل مثل هذا . وكذلك بنو أمية كانت معاملة وغيره لهم من أظهر الأشياء دليلا على أنهم مؤمنون عنده لا كفار ابن عباس [23] .
فإن قيل : نحن لا نكفر من سوى الشيعة ، لكن نقول : هم خير البرية .
قيل : الآية تدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية ، فإن قلتم : إن من سواهم لا يدخل في ذلك ، فإما أن تقولوا : هو كافر أو تقولوا : فاسق [24] ، بحيث لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، * وإن دخل اسمهم في الإيمان ، وإلا فمن كان مؤمنا فليس بفاسق فهو داخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات * [25] .
فإن قلتم : هو فاسق .
قيل لكم : إن ثبت فسقهم كفاكم ذلك في الحجة . وإن لم يثبت لم ينفعكم ذلك في الاستدلال ، وما تذكرون به فسق [26] طائفة من الطوائف إلا وتلك الطائفة تبين لكم أنكم أولى بالفسق منهم من وجوه كثيرة ، وليس لكم حجة صحيحة تدفعون بها هذا .
[ ص: 263 ] والفسق غالب عليكم لكثرة الكذب [27] فيكم والفواحش والظلم ، فإن ذلك أكثر فيكم منه في الخوارج وغيرهم من خصومكم . وأتباع بني أمية كانوا أقل ظلما وكذبا وفواحش ممن دخل في الشيعة بكثير ، وإن كان في بعض الشيعة صدق ودين وزهد ، فهذا في سائر الطوائف أكثر منهم ، ولو لم يكن إلا الخوارج الذين قيل فيهم : " " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم [28] .
الوجه السادس : أنه قال قبل ذلك : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) [ سورة البينة : 6 ] ثم قال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) [ سورة البينة : 7 ] . وهذا يبين أن هؤلاء من سوى المشركين وأهل الكتاب . وفي القرآن مواضع كثيرة ذكر فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكلها عامة . فما الموجب لتخصيص هذه الآية دون نظائرها ؟ .
وإنما دعوى الرافضة - أو غيرهم - من أهل الأهواء الكفر في كثير ممن سواهم ، كالخوارج وكثير من المعتزلة والجهمية ، [ و ] أنهم [29] هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون من سواهم ، كقول اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ سورة البقرة : 111 - 112 ] . وهذا عام في كل من عمل [ ص: 264 ] لله بما أمره الله ، فالعمل الصالح هو المأمور به ، وإسلام وجهه لله إخلاص قصده لله [30] .