[ ص: 266 ] فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان الخامس والثلاثون : قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ سورة التوبة : 119 ] أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق ، وليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره ، فيكون هو ; إذ لا معصوم من الأربعة سواه . وفي حديث عليا أبي نعيم عن أنها نزلت في ابن عباس " . علي
والجواب من وجوه : أحدها : أن الصديق مبالغة في الصادق ، فكل صديق صادق وليس كل صادق صديقا . - رضي الله عنه - قد ثبت أنه صديق بالأدلة الكثيرة وأبو بكر ، فيجب أن تتناوله الآية قطعا وأن تكون معه ، بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة . وإذا كنا معه مقرين بخلافته ، امتنع أن نقر بأن كان هو الإمام دونه ، فالآية تدل على نقيض مطلوبهم . عليا
الثاني : أن يقال : إما أن يكون صديقا وإما أن لا يكون ، فإن لم يكن صديقا علي فأبو بكر الصديق ، فالكون مع الصادق الصديق أولى من الكون مع الصادق الذي ليس بصديق . وإن كان صديقا فعمر أيضا صديقون ، وحينئذ فإذا كان الأربعة صديقين ، لم يكن وعثمان مختصا [ ص: 267 ] بذلك ، ولا بكونه صادقا ، فلا يتعين الكون مع واحد دون الثلاثة . بل لو قدرنا التعارض لكان الثلاثة أولى من الواحد ، فإنهم أكثر عددا ، لا سيما وهم أكمل في الصدق . علي
الثالث : أن يقال : هذه الآية نزلت في لما تخلف عن غزوة كعب بن مالك تبوك ، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه لم يكن له عذر ، وتاب الله عليه ببركة الصدق ، وكان جماعة أشاروا عليه بأن يعتذر ويكذب ، كما اعتذر غيره من المنافقين وكذبوا . وهذا ثابت في الصحاح والمساند قصة [2] وكتب التفسير والسير ، والناس متفقون عليه [3] .
ومعلوم أنه لم يكن اختصاص في هذه القصة ، بل قال لعلي : " فقام إلي كعب بن مالك يهرول فعانقني ، والله ما قام إلي من طلحة المهاجرين غيره " [4] فكان كعب لا ينساها . وإذا كان كذلك بطل حملها على لطلحة وحده . علي
الوجه الرابع : أن هذه الآية نزلت في هذه القصة ، ولم يكن أحد يقال : إنه معصوم ، لا ولا غيره . فعلم أن الله أراد ( علي مع الصادقين ) ولم يشترط كونه معصوما .
الخامس : أنه قال : ( مع الصادقين ) وهذه صيغة جمع ، واحد ، فلا يكون هو المراد وحده . وعلي
السادس : أن قوله تعالى : ( مع الصادقين ) إما أن يراد : كونوا معهم في [ ص: 268 ] الصدق وتوابعه ، فاصدقوا كما يصدق الصادقون ، ولا تكونوا مع الكاذبين . كما في قوله : ( واركعوا مع الراكعين ) [ سورة البقرة : 43 ] ، وقوله : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) [ سورة النساء : 69 ] ، وكما في قوله : ( فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) [ سورة النساء : 146 ] .
وإما أن يراد به : كونوا مع الصادقين في كل شيء ، وإن لم يتعلق [5] بالصدق .
والثاني باطل فإن الإنسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات ، كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك . فإذا كان الأول هو الصحيح ، فليس في هذا أمر [6] بالكون مع شخص معين ، بل المقصود : اصدقوا ولا تكذبوا .
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " [7] يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياك والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " عليكم بالصدق ; فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر [8] .
[ ص: 269 ] وهذا كما يقال : كن مع المؤمنين ، كن مع الأبرار . أي ادخل معهم [9] في هذا الوصف وجامعهم عليه ، ليس المراد : أنك مأمور بطاعتهم في كل شيء .
الوجه السابع : أن يقال : إذا أريد : كونوا مع الصادقين مطلقا ، فذلك لأن الصدق مستلزم لسائر البر ، كقول[10] النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الحديث . وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به . عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر
الثامن : أن يقال : إن الله أمرنا أن نكون مع الصادقين ، ولم يقل : مع المعلوم فيهم الصدق ، كما أنه قال : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) [ سورة الطلاق : 2 ] لم يقل : من علمتم أنهم ذوو عدل منكم . وكما قال : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ سورة النساء : 58 ] لم يقل : إلى من علمتم أنهم أهلها . وكما قال : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [ سورة النساء : 58 ] لم يقل : بما علمتم أنه عدل ، لكن علق الحكم بالوصف .
ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل ، ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب . كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - المأمور أن يحكم بالعدل قال : " [11] وإنما أقضي بنحو مما [12] أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له من النار إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، [13] .
[ ص: 270 ] الوجه التاسع : هب أن المراد : من المعلوم فيهم الصدق ، لكن العلم كالعلم في قوله : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) [ سورة الممتحنة : 10 ] والإيمان أخفى من الصدق . فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه : ليس إلا العلم بالمعصوم ، كذلك هنا يمتنع أن يقال : لا يعلم إلا صدق المعصوم [14] .
الوجه العاشر : هب [15] أن المراد : علمنا صدقه ، لكن يقال : إن ، أبا بكر ، وعمر ونحوهم ممن علم صدقهم ، وأنهم لا يتعمدون الكذب ، وإن جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب ، فإن الكذب أعظم . ولهذا ترد شهادة الشاهد بالكذبة الواحدة في أحد قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن وعثمان . وقد روي في ذلك حديث مرسل أحمد [16] . ونحن قد نعلم يقينا أن هؤلاء لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ولا يتعمدون الكذب بحال . ولا نسلم أنا لا نعلم انتفاء الكذب إلا عمن يعلم أنه معصوم مطلقا ، بل كثير من الناس إذا اختبرته تيقنت أنه لا يكذب ، وإن كان يخطئ ويذنب ذنوبا أخرى . ولا نسلم أن كل من ليس بمعصوم يجوز أن يتعمد الكذب .
وهذا خلاف الواقع ، فإن . وهؤلاء الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل الكذب لا يتعمده إلا من هو من شر الناس ، مالك ، وشعبة ويحيى بن [ ص: 271 ] سعيد ، ، والثوري ، والشافعي ونحوهم ، لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا على غيره ، فكيف وأحمد ، بابن عمر ، وابن عباس وأبى سعيد وغيرهم ؟ .
الوجه الحادي عشر : أنه لو قدر أن المراد به : المعصوم لا نسلم الإجماع على انتفاء العصمة من غير [17] ، كما تقدم بيان ذلك ; فإن كثيرا من الناس الذين هم خير من علي الرافضة يدعون في شيوخهم هذا المعنى ، وإن غيروا عبارته . وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته ، بل إما انتفاء الجميع وإما ثبوت الجميع .