الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 266 ] فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الخامس والثلاثون : قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) [ سورة التوبة : 119 ] أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق ، وليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره ، فيكون هو عليا ; إذ لا معصوم من الأربعة سواه . وفي حديث أبي نعيم عن ابن عباس أنها نزلت في علي " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : أن الصديق مبالغة في الصادق ، فكل صديق صادق وليس كل صادق صديقا . وأبو بكر - رضي الله عنه - قد ثبت أنه صديق بالأدلة الكثيرة ، فيجب أن تتناوله الآية قطعا وأن تكون معه ، بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة . وإذا كنا معه مقرين بخلافته ، امتنع أن نقر بأن عليا كان هو الإمام دونه ، فالآية تدل على نقيض مطلوبهم .

                  الثاني : أن يقال : علي إما أن يكون صديقا وإما أن لا يكون ، فإن لم يكن صديقا فأبو بكر الصديق ، فالكون مع الصادق الصديق أولى من الكون مع الصادق الذي ليس بصديق . وإن كان صديقا فعمر وعثمان أيضا صديقون ، وحينئذ فإذا كان الأربعة صديقين ، لم يكن علي مختصا [ ص: 267 ] بذلك ، ولا بكونه صادقا ، فلا يتعين الكون مع واحد دون الثلاثة . بل لو قدرنا التعارض لكان الثلاثة أولى من الواحد ، فإنهم أكثر عددا ، لا سيما وهم أكمل في الصدق .

                  الثالث : أن يقال : هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك ، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه لم يكن له عذر ، وتاب الله عليه ببركة الصدق ، وكان جماعة أشاروا عليه بأن يعتذر ويكذب ، كما اعتذر غيره من المنافقين وكذبوا . وهذا ثابت في الصحاح والمساند [2] وكتب التفسير والسير ، والناس متفقون عليه [3] .

                  ومعلوم أنه لم يكن لعلي اختصاص في هذه القصة ، بل قال كعب بن مالك : " فقام إلي طلحة يهرول فعانقني ، والله ما قام إلي من المهاجرين غيره " [4] فكان كعب لا ينساها لطلحة . وإذا كان كذلك بطل حملها على علي وحده .

                  الوجه الرابع : أن هذه الآية نزلت في هذه القصة ، ولم يكن أحد يقال : إنه معصوم ، لا علي ولا غيره . فعلم أن الله أراد ( مع الصادقين ) ولم يشترط كونه معصوما .

                  الخامس : أنه قال : ( مع الصادقين ) وهذه صيغة جمع ، وعلي واحد ، فلا يكون هو المراد وحده .

                  السادس : أن قوله تعالى : ( مع الصادقين ) إما أن يراد : كونوا معهم في [ ص: 268 ] الصدق وتوابعه ، فاصدقوا كما يصدق الصادقون ، ولا تكونوا مع الكاذبين . كما في قوله : ( واركعوا مع الراكعين ) [ سورة البقرة : 43 ] ، وقوله : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) [ سورة النساء : 69 ] ، وكما في قوله : ( فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) [ سورة النساء : 146 ] .

                  وإما أن يراد به : كونوا مع الصادقين في كل شيء ، وإن لم يتعلق [5] بالصدق .

                  والثاني باطل فإن الإنسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات ، كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك . فإذا كان الأول هو الصحيح ، فليس في هذا أمر [6] بالكون مع شخص معين ، بل المقصود : اصدقوا ولا تكذبوا .

                  كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " عليكم بالصدق ; فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر [7] يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياك والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " [8] .

                  [ ص: 269 ] وهذا كما يقال : كن مع المؤمنين ، كن مع الأبرار . أي ادخل معهم [9] في هذا الوصف وجامعهم عليه ، ليس المراد : أنك مأمور بطاعتهم في كل شيء .

                  الوجه السابع : أن يقال : إذا أريد : كونوا مع الصادقين مطلقا ، فذلك لأن الصدق مستلزم لسائر البر ، كقول[10] النبي - صلى الله عليه وسلم - : عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر " الحديث . وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به .

                  الثامن : أن يقال : إن الله أمرنا أن نكون مع الصادقين ، ولم يقل : مع المعلوم فيهم الصدق ، كما أنه قال : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) [ سورة الطلاق : 2 ] لم يقل : من علمتم أنهم ذوو عدل منكم . وكما قال : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ سورة النساء : 58 ] لم يقل : إلى من علمتم أنهم أهلها . وكما قال : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [ سورة النساء : 58 ] لم يقل : بما علمتم أنه عدل ، لكن علق الحكم بالوصف .

                  ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل ، ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب . كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - المأمور أن يحكم بالعدل قال : " إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، [11] وإنما أقضي بنحو مما [12] أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له من النار [13] .

                  [ ص: 270 ] الوجه التاسع : هب أن المراد : من المعلوم فيهم الصدق ، لكن العلم كالعلم في قوله : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) [ سورة الممتحنة : 10 ] والإيمان أخفى من الصدق . فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه : ليس إلا العلم بالمعصوم ، كذلك هنا يمتنع أن يقال : لا يعلم إلا صدق المعصوم [14] .

                  الوجه العاشر : هب [15] أن المراد : علمنا صدقه ، لكن يقال : إن أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ونحوهم ممن علم صدقهم ، وأنهم لا يتعمدون الكذب ، وإن جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب ، فإن الكذب أعظم . ولهذا ترد شهادة الشاهد بالكذبة الواحدة في أحد قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد . وقد روي في ذلك حديث مرسل [16] . ونحن قد نعلم يقينا أن هؤلاء لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ولا يتعمدون الكذب بحال . ولا نسلم أنا لا نعلم انتفاء الكذب إلا عمن يعلم أنه معصوم مطلقا ، بل كثير من الناس إذا اختبرته تيقنت أنه لا يكذب ، وإن كان يخطئ ويذنب ذنوبا أخرى . ولا نسلم أن كل من ليس بمعصوم يجوز أن يتعمد الكذب .

                  وهذا خلاف الواقع ، فإن الكذب لا يتعمده إلا من هو من شر الناس . وهؤلاء الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل مالك ، وشعبة ، ويحيى بن [ ص: 271 ] سعيد ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ونحوهم ، لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا على غيره ، فكيف بابن عمر ، وابن عباس ، وأبى سعيد وغيرهم ؟ .

                  الوجه الحادي عشر : أنه لو قدر أن المراد به : المعصوم لا نسلم الإجماع على انتفاء العصمة من غير [17] علي ، كما تقدم بيان ذلك ; فإن كثيرا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدعون في شيوخهم هذا المعنى ، وإن غيروا عبارته . وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته ، بل إما انتفاء الجميع وإما ثبوت الجميع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية