الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 277 ] فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الثامن والثلاثون : قوله تعالى : ( إخوانا على سرر متقابلين ) [ سورة الحجر : 47 ] من مسند أحمد [2] بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده ، فذكر قصة مؤاخاة [3] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [4] ، فقال علي : لقد ذهبت [5] روحي ، وانقطع ظهري ، حين فعلت بأصحابك [6] ، فإن كان هذا من سخط الله علي [7] ، فلك العقبى [8] والكرامة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي بعثني بالحق نبيا ، ما اخترتك [9] لا لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي [10] ، وأنت أخي [ ص: 278 ] ووارثي [11] ، وأنت معي في قصري في الجنة ، ومع ابنتي فاطمة ، فأنت [12] أخي ورفيقي . ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إخوانا على سرر متقابلين ) ، المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض . والمؤاخاة تستدعي المناسبة والمشاكلة ، فلما اختص علي بمؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم [13] - كان هو الإمام " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا الإسناد . وليس هذا الحديث في مسند أحمد ، ولا رواه أحمد [ قط ] [14] لا في المسند ولا في " الفضائل [15] " ولا ابنه [16] . فقول هذا الرافضي : " من مسند أحمد " [17] كذب وافتراء على المسند ، وإنما هو من زيادات القطيعي * التي فيها من الكذب الموضوع ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع ، رواه القطيعي * [18] عن [19] عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا حسين بن محمد الذارع ، حدثنا عبد المؤمن بن عباد ، حدثنا يزيد بن معن ، عن عبد الله بن شرحبيل ، عن زيد بن أبي أوفى [20] .

                  [ ص: 279 ] وهذا الرافضي لم يذكره بتمامه فإن فيه عند قوله : وأنت أخي ووارثي . قال : وما أرث منك يا رسول الله ؟ قال : ما ورث الأنبياء من قبلي . قال : وما ورث الأنبياء من قبلك ؟ قال : كتاب الله وسنة نبيهم [21] .

                  وهذا الإسناد مظلم انفرد [22] به عبد المؤمن بن عباد أحد المجروحين ، ضعفه أبو حاتم [23] عن يزيد بن معن ، ولا يدري من هو ، فلعله الذي اختلقه عن عبد الله بن شرحبيل ، وهو مجهول ، عن رجل من قريش ، عن زيد [24] بن أبي أوفى .

                  الوجه الثاني : [ أن هذا ] [25] مكذوب مفترى باتفاق أهل المعرفة .

                  الثالث : أن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، والأنصار بعضهم مع بعض ، كلها كذب . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليا ، ولا آخى بين أبي بكر وعمر ، ولا بين مهاجري ومهاجري ، لكن آخى بين المهاجرين والأنصار ، كما آخى بين عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن الربيع ، وبين سلمان الفارسي ، وأبي الدرداء ، وبين علي ، وسهل بن حنيف .

                  [ ص: 280 ] وكانت المؤاخاة في دور بني النجار ، كما أخبر بذلك أنس في الحديث الصحيح ، لم تكن في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر في الحديث الموضوع ، وإنما كانت في دار كان لبعض بني النجار [26] ، وبناه في محلتهم . فالمؤاخاة التي أخبر بها أنس ما في الصحيحين عن عاصم بن سليمان الأحول ، قال : قلت لأنس : أبلغت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا حلف في الإسلام " . فقال أنس : قد حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين قريش والأنصار في داري [27] .

                  الرابع : أن قوله في هذا الحديث : أنت أخي ووارثي ، باطل على قول أهل السنة والشيعة ، فإنه إن أراد ميراث المال بطل قولهم : إن فاطمة ورثته . وكيف يرث ابن العم مع وجود العم وهو العباس ؟ وما الذي خصه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة ؟ وإن أراد [28] : وارث [29] العلم والولاية ، بطل احتجاجهم بقوله : ( وورث سليمان داود ) [ سورة النمل : 16 ] وقوله : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ) [ سورة مريم : 5 ، 6 ] ; [ ص: 281 ] إذ لفظ " الإرث " إذا كان محتملا لهذا ولهذا [30] أمكن أن [ أولئك ] [31] الأنبياء ورثوا كما ورث علي النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                  وأما أهل السنة فيعلمون أن ما ورثه النبي - صلى الله عليه وسلم - من العلم لم يختص به علي ، بل كل [32] من أصحابه حصل له نصيب بحسبه ، وليس العلم كالمال ، بل الذي يرثه هذا يرثه هذا ولا يتزاحمان [33] ; إذ لا يمتنع أن يعلم هذا ما علمه هذا ، كما يمتنع أن يأخذ هذا المال الذي أخذه هذا .

                  الوجه الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثبت الأخوة لغير علي ، كما في الصحيحين أنه قال لزيد : " أنت أخونا ومولانا " [34] . وقال له أبو بكر لما خطب ابنته : ألست أخي ؟ قال : " أنا أخوك ، وبنتك حلال لي " [35] . وفي الصحيح أنه قال في حق أبي بكر : " ولكن أخوة الإسلام " [36] .

                  [ ص: 282 ] وقال في الصحيح أيضا [37] : " وددت أن قد رأيت إخواني " . قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : " لا ، أنتم أصحابي ، ولكن إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني " [38] يقول : أنتم لكم من الأخوة ما هو أخص منها ، وهو الصحبة ، وأولئك لهم أخوة بلا صحبة .

                  وقد قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) [ سورة الحجرات : 10 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقاطعوا ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ) أخرجاه في الصحيحين [39] .

                  وقال : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " [40] .

                  .

                  وقال : " والذي نفسي بيده ; لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه " [41] .

                  [ ص: 283 ] وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح . وإذا كان كذلك علم أن مطلق المؤاخاة لا يقتضي [42] التماثل من كل وجه ، ولا يقتضي المناسبة والمشاكلة من كل وجه ، بل من بعض [43] الوجوه .

                  وإذا كان كذلك فلم قيل : إن مؤاخاة علي لو كانت صحيحة اقتضت الإمامة والأفضلية ، مع أن المؤاخاة مشتركة ؟ وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح من غير وجه أنه قال : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله . لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت ، إلا خوخة أبي بكر . إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر " [44] .

                  وفي هذا إثبات خصائص لأبي بكر لا يشركه [45] فيها أحد [ غيره ] [46] ، وهو صريح في أنه ليس من أهل الأرض من هو أحب إليه ، ولا أعلى منزلة عنده ، ولا أرفع درجة ، ولا أكثر اختصاصا به من أبي بكر .

                  * كما في الصحيحين : قيل له : [ أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " . قيل : ومن الرجال ؟ قال : " أبوها " [47] . وفي الصحيحين عن عمر [ ص: 284 ] أنه قال : أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [48] . فهذه الأحاديث التي ] * [49] [50] أجمع أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ، ( 3 ولم يقدح فيها أحد من العلم [51] تبين أن أبا بكر كان أحب إليه وأعلى عنده من جميع الناس 3 ) [52] .

                  وحينئذ فإن كانت المؤاخاة دون هذه المرتبة لم تعارضها ، وإن كانت أعلى كانت هذه الأحاديث الصحيحة تدل على كذب أحاديث المؤاخاة ، وإن كنا نعلم أنها كذب بدون هذه المعارضة .

                  لكن المقصود أن هذه الأحاديث الصحيحة تبين أن أبا بكر كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علي ، وأعلى قدرا عنده منه ومن كل [53] من سواه ، وشواهد هذا كثيرة [54] .

                  وقد روى بضعة وثمانون نفسا عن علي أنه قال : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " . رواها البخاري في الصحيح عن علي - رضي الله عنه - [55] . وهذا هو الذي يليق بعلي - رضي الله عنه - فإنه من أعلم الصحابة بحق أبي بكر وعمر ، وأعرفهم بمكانهما [56] من الإسلام ، وحسن تأثيرهما في الدين ، حتى إنه تمنى أن يلقى الله بمثل عمل عمر - رضي الله عنهم أجمعين - .

                  [ ص: 285 ] وروى الترمذي - وغيره - مرفوعا عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، لا تخبرهما يا علي " [57] .

                  .

                  وهذا [58] الحديث وأمثاله لو عورض بها أحاديث المؤاخاة وأحاديث الطير ونحوه ; لكانت باتفاق المسلمين أصح منها ، فكيف إذا انضم إليها سائر الأحاديث التي لا شك في صحتها ؟ مع الدلائل الكثيرة المتعددة ، التي توجب علما ضروريا لمن علمها ، أن أبا بكر كان أحب الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفضل عنده من عمر ، وعثمان ، وعلي وغيرهم ، وكل من كان بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله أعلم كان بهذا أعرف ، وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة ; فأما [59] أن يصدق الكل أو يتوقف في الكل .

                  [ ص: 286 ] وأما أهل العلم بالحديث الفقهاء فيه فيعلمون هذا علما ضروريا . دع هذا ; فلا ريب أن كل من له في الأمة لسان صدق من علمائها وعبادها متفقون [60] على تقديم أبي بكر وعمر ، كما قال الشافعي - رضي الله عنه - فيما نقله عنه البيهقي بإسناده ، قال : " لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - وتقديمهما على جميع الصحابة " [61] .

                  وكذلك أيضا لم يختلف علماء الإسلام في ذلك ، كما هو قول مالك وأصحابه ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وداود وأصحابه ، والثوري وأصحابه ، والليث وأصحابه ، والأوزاعي وأصحابه ، و إسحاق وأصحابه ، وابن جرير وأصحابه ، وأبي ثور وأصحابه ، وكما هو قول سائر العلماء المشهورين ، إلا من لا يؤبه له [62] ولا يلتفت إليه .

                  وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا ، إلا ما نقل عن الحسن بن صالح بن حي أنه كان يفضل عليا . وقيل : إن هذا كذب عليه . ولو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي [63] من الإجماع ; فإن الحسن بن صالح لم يكن من التابعين ولا من الصحابة . والشافعي ذكر إجماع الصحابة والتابعين على تقديم أبي بكر ، ولو قاله الحسن ، فإذا أخطأ واحد من مائة ألف إمام أو أكثر ، لم يكن ذلك بمنكر .

                  وليس في شيوخ الرافضة إمام في شيء من علوم الإسلام لا علم [ ص: 287 ] الحديث ولا الفقه ولا التفسير ولا القرآن ، بل شيوخ الرافضة إما جاهل وإما زنديق ، كشيوخ أهل الكتاب .

                  بل السابقون [64] الأولون وأئمة السنة والحديث متفقون على تقديم عثمان ، ومع هذا إنهم لم يجتمعوا على ذلك رغبة ولا رهبة ، بل مع تباين آرائهم وأهوائهم وعلومهم ، واختلافهم وكثرة اختلافاتهم فيما سوى ذلك من مسائل العلم ، فأئمة الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - متفقون على هذا ، ثم من بعدهم ، كمالك بن أنس ، وابن أبي ذئب ، وعبد العزيز بن الماجشون ، وغيرهم من علماء المدينة .

                  ومالك يحكي الإجماع عمن لقيه أنهم لم يختلفوا في تقديم أبي بكر وعمر . وابن جريج وابن عيينة وسعد [65] بن سالم ومسلم بن خالد [66] ، وغيرهم من علماء مكة ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وشريك بن عبد الله وابن أبي ليلى ، وغيرهم من فقهاء الكوفة ، وهي دار الشيعة ، حتى كان الثوري [67] يقول : من قدم عليا على أبي بكر ما أرى أن يصعد له إلى الله عمل . رواه أبو داود في سننه [68] .

                  وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسعيد بن أبي عروبة ، وأمثالهم من علماء البصرة ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وغيرهم من علماء الشام ، [ ص: 288 ] والليث ، وعمرو بن الحارث [69] . وابن وهب ، وغيرهم من علماء مصر ، ثم مثل عبد الله بن المبارك ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، ومثل الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إبراهيم ، وأبي عبيد ، ومثل البخاري ، وأبي داود ، وإبراهيم الحربي ، ومثل الفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي ، والسري السقطي والجنيد وسهل بن عبد الله التستري ، ومن لا يحصي عدده إلا الله ، ممن له في الإسلام لسان صدق ، كلهم يجزمون بتقديم أبي بكر وعمر ، كما يجزمون بإمامتهما ، مع فرط اجتهادهم في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وموالاته . فهل يوجب هذا إلا ما علموه من تقديمه هو لأبي بكر وعمر ، وتفضيله لهما بالمحبة والثناء والمشاورة وغير ذلك من أسباب التفضيل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية