الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 304 ] الرابع : أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية ; فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ، ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ; فإن بني عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة : العباس ، وأبو طالب ، والحارث ، وأبو لهب . وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة ، وهم بنو هاشم ، ولم يدرك [1] . النبوة من عمومته إلا أربعة : العباس ، وحمزة ، وأبو طالب وأبو لهب . فآمن اثنان ، وهما : حمزة ، والعباس [2] ، وكفر اثنان أحدهما نصره وأعانه ، وهو أبو طالب ، والآخر عاداه وأعان أعداءه ، وهو أبو لهب .

                  وأما العمومة وبنو العمومة ، فأبو طالب كان له أربعة بنين : طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وعلي . وطالب لم يدرك الإسلام ، وأدركه الثلاثة فآمن علي ، وجعفر في أول الإسلام ، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة عام خيبر .

                  وكان [ عقيل ] [3] . قد استولى على رباع [4] . بني هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ، ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته : " ننزل غدا في دارك بمكة " قال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ " [5] .

                  [ ص: 305 ] وأما العباس فبنوه كلهم صغار ; إذ لم يكن [6] . فيهم بمكة رجل ، وهب أنهم كانوا رجالا فهم : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل ، وأما قثم فولد بعدهم ، وأكبرهم الفضل ، وبه كان يكنى ، وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( سورة الشعراء : 214 ) ، وكان له في الهجرة له : [7] . نحو ثلاث سنين ، أو أربع سنين ، ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل ، وعبد الله ، وعبيد الله ، وأما سائرهم فولدوا بعده .

                  وأما الحارث بن عبد المطلب ، وأبو لهب فبنوهما أقل ، والحارث كان له ابنان أبو سفيان ، وربيعة ، وكلاهما تأخر إسلامه ، وكان من مسلمة الفتح .

                  وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح ، وكان له ثلاثة ذكور ، فأسلم منهم اثنان : عتبة ومغيث ، وشهد الطائف وحنينا ، وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء [8] من الشام كافرا [9] .

                  [ ص: 306 ] فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا ، فأين الأربعون ؟ .

                  الخامس : قوله : " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ، ويشرب الفرق من اللبن " فكذب [10] . على القوم ، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ، ولا يشرب فرقا .

                  السادس : أن قوله للجماعة : " من يجبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي " كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نسبته إليه ، فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله ، فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين ، وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته [11] ، وفارقوا أوطانهم وعادوا إخوانهم ، وصبروا على الشتات بعد الألفة ، وعلى الذل بعد العز ، وعلى الفقر بعد الغنى ، وعلى الشدة بعد الرخاء ، وسيرتهم معروفة مشهورة ، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك [12] . خليفة له .

                  [ ص: 307 ] وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه - أو أكثرهم أو عدد منهم - فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده أيعين واحدا [13] . بلا موجب ؟ أم يجعل [14] . الجميع خلفاء في وقت واحد ؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة ، والأخوة والمؤازرة ، إلا بأمر سهل ، وهو الإجابة على الشهادتين ، والمعاونة على هذا الأمر ، وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة ، إلا وله من هذا نصيب وافر ، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ !

                  السابع : أن حمزة ، وجعفرا ، وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر ، فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر ، بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة ، فإن أبا لهب كان مظهرا لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب .

                  ( الثامن ) [15] . : أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ، ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة - واللفظ له - عن النبي صلى الله [ ص: 308 ] عليه وسلم لما نزلت: ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ( سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فخص وعم فقال : " يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ( 1 يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار 1 ) [16] . ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة ( بنت محمد ) [17] . أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها " [18] .

                  وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا سلاني ما شئتما من مالي " [19] .

                  وخرجه مسلم من حديث ابن [ ص: 309 ] المخارق ، وزهير بن عمرو [20] ، ومن [21] . حديث عائشة ، وقال فيه : " قام علي الصفا " [22] .

                  وقال في حديث قبيصة : " انطلق إلى رضمة من جبل ، فعلا أعلاها حجرا [23] . ، ثم نادى : " يا بني عبد مناف إني لكم نذير ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف: يا صباحاه " [24] .

                  وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال : " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله وسلم حتى صعد الصفا فهتف : " يا صباحاه " [25] . فقالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه فجعل ينادي : " يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبد المطلب " ، وفي رواية : " يا بني فهر ، يا بني عدي ، يا بني فلان " لبطون قريش ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو فاجتمعوا ، فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم [ ص: 310 ] مصدقي ؟ " قالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " قال : فقال أبو لهب : تبا لك أما [26] . جمعتنا إلا لهذا ؟ ! فقام فنزلت هذه [27] . السورة: ( تبت يدا أبي لهب وتب ) ( سورة المسد : 1 ) [28] .

                  وفي رواية : " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقوني ؟ " قالوا : بلى [29] .

                  فإن قيل : فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل كالثعلبي والبغوي وأمثالهما والمغازلي [30] .

                  قيل له : مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث ، فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع ، وفيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب ، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب .

                  والثعلبي وأمثاله لا يتعمدون الكذب [31] . ، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك ، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ، ويروون ما سمعوه ، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث ، كشعبة ، ويحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، وعلي بن [ ص: 311 ] المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين ، وأبي عبد الله بن منده ، والدارقطني ، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي من الصحابة والتابعين ( وتابعيهم ) [32] ، ومن بعدهم من نقلة العلم .

                  وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار ، وأسماءهم ، وذكروا أخبارهم ، وأخبار من أخذوا عنه ، ومن أخذ عنهم مثل " كتاب العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان ، وابن المديني ، وأحمد ، وابن معين [33] . ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والنسائي ، والترمذي ، وأحمد بن عدي ، وابن حبان ، وأبي الفتح الأزدي ، والدارقطني ، وغيرهم .

                  وتفسير الثعلبي فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة ، ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور : سورة سورة .

                  وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدي [34] ، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث ، وكذلك غير هذا .

                  [ ص: 312 ] وكذلك الواحدي تلميذ الثعلبي ، والبغوي اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي والواحدي ، لكنهما أخبر [35] . بأقوال المفسرين منه ، والواحدي أعلم بالعربية من هذا وهذا ، والبغوي أتبع للسنة منهما .

                  وليس لكون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق ، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا ، بل الاعتبار بميزان العدل .

                  وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصول ، والأحكام ، والزهد ، والفضائل ، ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة ، وفضائل معاوية .

                  ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روي في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء ، وكذلك غيره ممن صنف في الفضائل ، ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبي الفوارس ، وأبو علي الأهوازي ، وغيرهما في فضائل معاوية ، ومثل ما جمعه النسائي في فضائل علي ، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل علي وغيره ، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه ، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم .

                  وأما من يذكر الحديث بلا إسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق ، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة ، ويذكر بعضهم [ ص: 313 ] أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية