فصل
قال الرافضي : [1] : الثاني الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لما نزل قوله تعالى: ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ( سورة المائدة : 67 ) خطب الناس في غدير خم ، وقال للجمع كله : يا [2] أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه [3] ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فقال عمر : بخ بخ [4] ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقرير [5] منه صلى الله عليه وسلم بقوله [6] : ألست أولى منكم بأنفسكم [7] ؟
والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدم [8] ، وبينا أن هذا [ ص: 314 ] كذب ، وأن قوله : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ( سورة المائدة : 67 ) نزل قبل حجة ( الوداع ) [9] بمدة طويلة .
ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج ، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث ، ومما يبين ذلك أن [10] آخر المائدة نزولا قوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) ( سورة المائدة : 3 ) ، وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن ، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم .
وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام ، فكيف يكون قوله : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ( سورة المائدة : 67 ) نزل ذلك الوقت ، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك ، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة ، وإن كان ذلك في سورة المائدة كما أن فيها تحريم الخمر ، والخمر حرمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد ، وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) ( سورة المائدة : 42 ) ، وهذه الآية نزلت إما في الحد [11] لما رجم اليهوديين [12] ، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء ، ورجم اليهوديين كان أول ما [ ص: 315 ] فعله بالمدينة ، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير ، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق ، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق .
والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية ، وقبل فتح خيبر ، وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين ، وذلك كله قبل حجة الوداع ، وحجة الوداع قبل خطبة الغدير .
فمن قال : إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم [13] فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم .
وأيضا ، فإن الله تعالى قال في كتابه : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ( سورة المائدة : 67 ) [14] فضمن له سبحانه أنه يعصمه من الناس إذا بلغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء ; ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يحرس [15] ، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك [16] .
[ ص: 316 ] وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ ، وفي حجة الوداع تم التبليغ .
وقال في حجة الوداع : " ألا هل بلغت ألا هل بلغت ؟ " قالوا : نعم ، قال : " اللهم اشهد " ، وقال لهم : " أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ، وينكبها [17] إلى الأرض [18] ، ويقول : " اللهم اشهد ، اللهم اشهد " ، وهذا لفظ حديث جابر في صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة [19] .
وقال : " ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع " [20] .
فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت [21] التبليغ المتقدم ، فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجة الوداع ; لأنه قد بلغ قبل ذلك ، ولأنه حينئذ لم يكن خائفا من أحد يحتاج أن يعصم منه [22] ، بل بعد [23] حجة الوداع كان أهل مكة [24] والمدينة ، وما حولهما كلهم مسلمين منقادين له [25] ليس فيهم [ ص: 317 ] كافر ، والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق [26] ، ليس فيهم من يحاربه ، ولا من يخاف الرسول منه فلا يقال له في هذه الحال : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ( سورة المائدة : 67 ) .
وهذا مما يبين أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه ، كالذي بلغه في حجة الوداع ، فإن كثيرا من الذين حجوا معه - أو أكثرهم - لم يرجعوا معه إلى المدينة ، بل رجع أهل مكة إلى مكة ، وأهل الطائف إلى الطائف ، وأهل اليمن إلى اليمن ، وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى بواديهم ، وإنما رجع ( معه ) [27] . أهل المدينة ومن كان قريبا منها .
فلو كان ما ذكره يوم الغدير مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في الحج ، لبلغه [28] في حجة الوداع كما بلغ غيره ، فلما لم يذكر [29] في حجة الوداع إمامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلا ، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر إمامة علي ، بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبته [30] ، وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام - علم أن إمامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه [31] ، بل ولا حديث الموالاة [32] ، وحديث الثقلين ، ونحو ذلك مما يذكر في إمامته [33] .
[ ص: 318 ] والذي رواه مسلم أنه [34] . بغدير خم قال : " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله " فذكر كتاب الله وحض عليه ، ثم قال : وعترتي أهل بيتي ، أذكركم الله ( في أهل بيتي ) [35] ثلاثا ، وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري ، وقد رواه الترمذي وزاد فيه : " وإنهما لن [36] يفترقا حتى يردا علي الحوض " [37] .
وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة ، وقال : إنها ليست من الحديث . والذين اعتقدوا صحتها قالوا : إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالة ، وهذا قاله طائفة من أهل السنة ، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره .
والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله ، فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله ، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك ، وهو لم يأمر [38] باتباع العترة ، ولكن قال : " أذكركم الله في أهل بيتي " ، وتذكير الأمة بهم [39] يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم ، والامتناع من ظلمهم ، وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم .
[ ص: 319 ] فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك ، لا في حق علي ولا غيره [40] لا إمامته ، ولا غيرها .
لكن حديث الموالاة [41] قد رواه الترمذي ، وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كنت مولاه فعلي مولاه " [42] ، وأما الزيادة وهي [43] قوله : " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . . . " إلخ فلا ريب أنه كذب .
ونقل الأثرم في " سننه " عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر ، وأنه حدث [44] بحديثين : أحدهما [45] : قوله [46] لعلي : إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ ، والآخر : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . فأنكره أبو عبيد الله جدا لم يشك أن هذين كذب .
وكذلك قوله : أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة ، كذب أيضا .
وأما قوله : " من كنت مولاه فعلي مولاه " فليس هو في الصحاح [47] لكن هو مما رواه العلماء ، وتنازع الناس في صحته فنقل عن البخاري ، وإبراهيم الحربي ، وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه [ ص: 320 ] وضعفوه ، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي ، وقد صنف أبو العباس بن عقدة مصنفا في جميع طرقه [48] .
وقال ابن حزم [49] : الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " [50] ، وقوله [51] : " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " [52] وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل [53] ، وعهده صلى الله عليه وسلم [54] أن عليا " لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق " [55] ، وقد صح مثل هذا في الأنصار أنهم [56] " لا يبغضهم من يؤمن بالله ، واليوم الآخر " [57] .
قال [58] : " وأما " من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طريق [59] [ ص: 321 ] الثقات أصلا ، وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض [60] فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم [61] بالأخبار ونقلها [62] " .
فإن قيل : لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله : " أنت مني ، وأنا منك " [63] ، وحديث المباهلة [64] ، والكساء [65] .
قيل : مقصود ابن حزم : الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي ، وأما تلك ففيها ذكر غيره فإنه قال [66] لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي " [67] ، وقال لزيد : " أنت أخونا ومولانا " [68] ، وحديث المباهلة ، والكساء فيهما [69] ذكر علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين - رضي الله عنهم - فلا يرد هذا على ابن حزم .
ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول : إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام ، وإن كان قاله [70] فلم يرد به قطعا الخلافة بعده ; إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغا مبينا .
[ ص: 322 ] وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة ، وذلك أن المولى كالولي ، والله تعالى قال : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) ( سورة المائدة : 55 ) ، وقال : ( وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ) ( سورة التحريم : 4 ) * فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضا ، كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤهم ، وأن * [71] المؤمنين بعضهم أولياء بعض .
فالموالاة ضد المعاداة ، وهي تثبت من الطرفين [72] ، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إحسان وتفضل ، وولاية الآخر طاعة وعبادة ، كما أن الله يحب المؤمنين ، والمؤمنون يحبونه ، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة ، والكفار لا يحبون الله ورسوله ، ويحادون [73] الله ورسوله ويعادونه .
وقد قال تعالى: ( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) ( سورة الممتحنة : 1 ) ، وهو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى: ( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ( سورة البقرة : 279 ) .
وهو ولي المؤمنين وهو مولاهم [74] يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله ولي المؤمنين ومولاهم ، وكون الرسول وليهم ومولاهم ، وكون علي مولاهم هي [75] الموالاة التي هي ضد المعاداة .
[ ص: 323 ] والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة [76] المضادة للمعاداة ، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه .
وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن ، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطنا وظاهرا ، وذلك يرد [77] ما يقوله [78] فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب ، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي [79] ، وهم صالحو المؤمنين فعلي أيضا له مولى بطريق الأولى والأحرى ، وهم المؤمنون الذين يتولونه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : * " إن أسلم ، وغفارا ، ومزينة ، وجهينة ، وقريشا ، والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله " [80] ، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم * [81] كما جعل صالح المؤمنين مواليه ، والله ورسوله مولاهم .
[ ص: 324 ] وفي الجملة فرق بين الولي ، والمولى ونحو ذلك ، وبين الوالي فباب الولاية التي هي ضد [82] العداوة - شيء ، وباب الولاية - التي هي الإمارة - شيء .
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل : من كنت واليه فعلي واليه ، وإنما اللفظ : " من كنت مولاه فعلي مولاه " [83] .
وأما كون المولى [84] بمعنى الوالي فهذا باطل ، فإن الولاية تثبت من الطرفين ، فإن المؤمنين [85] أولياء الله ، وهو مولاهم .
وأما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم ، وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته ، ولو قدر أنه نص على خليفة من بعده ، لم يكن ذلك موجبا أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم ، ولو أريد هذا المعنى لقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه ، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد ، ومعناه باطل قطعا ; لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته ، وخلافة علي - لو قدر وجودها - لم تكن إلا بعد موته ، لم تكن في حياته ، فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه [86] ، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد ( به ) [87] الخلافة .
[ ص: 325 ] وهذا مما يدل على أنه لم يرد الخلافة ; فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت ، وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت . فعلم أن هذا ليس هذا .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة ، وإذا استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته ، أو قدر أنه استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته ، أو قدر أنه استخلف أحدا بعد موته ، وصار له خليفة بنص ، أو إجماع فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه ، لا سيما في حياته .
وأما كون علي ، وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، وبعد ممات علي ، فعلي اليوم مولى كل مؤمن ، وليس اليوم متوليا على الناس ، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وأمواتا [88] .


