وأما قول الرافضي : " إن  واصل بن عطاء  أخذ عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية    " . 
فيقال : إن [ الحسن بن ] محمد بن الحنفية  [1] قد وضع كتابا في الإرجاء ، نقيض قول المعتزلة   . ذكر هذا غير واحد من أهل العلم [2] ، وهذا يناقض مذهب المعتزلة  الذي يقول به  واصل بن عطاء  ، ويقال إنه أخذه عن أبي هاشم  [3]  . 
 [ ص: 8 ] وقيل : إن أبا هاشم  هذا صنف كتابا أنكر عليه ، لم يوافقه عليه أخوه ولا أهل بيته ، ولا أخذه عن أبيه . 
وبكل حال الكتاب الذي نسب إلى  الحسن  يناقض ما ينسب [4] إلى أبي هاشم  ، وكلاهما قد قيل : إنه رجع عن ذلك [5] ، ويمتنع أن يكونا أخذا هذين المتناقضين عن أبيهما  محمد بن الحنفية  ، وليس نسبة أحدهما إلى محمد  بأولى من الآخر ; فبطل القطع بكون  محمد بن الحنفية  كان يقول بهذا وبهذا . 
بل المقطوع به [6] أن محمدا  ، مع براءته من قول المرجئة  ، فهو من قول المعتزلة  أعظم براءة ، وأبوه  علي  أعظم براءة من المعتزلة  والمرجئة  منه . 
وأما الأشعري  فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي  ، لكنه  [ ص: 9 ] فارقه ورجع عن جمل [7] مذهبه ، وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه ، لكنه خالفه في نفي الصفات ، وسلك فيها طريقة  ابن كلاب  ، وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام ، وناقضهم في ذلك ، أكثر من مناقضة حسين النجار   وضرار بن عمرو  ، ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب ، كجمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث ، حتى مال في ذلك إلى قول  جهم  ، وخالفهم في الوعيد ، وقال بمذهب الجماعة ، وانتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة ،  كأحمد بن حنبل  وأمثاله ، وبهذا اشتهر عند الناس . 
فالقدر الذي يحمد من مذهبه ، ( * هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث ، كالجمل الجامعة . وأما القدر الذي يذم من مذهبه ، فهو ما وافق فيه المخالفين للسنة والحديث ، من المعتزلة  والمرجئة  ، والجهمية  والقدرية  ، ونحو ذلك . 
وأخذ مذهب أهل الحديث عن * ) [8]  زكريا بن يحيى الساجي  بالبصرة  [9] ، وعن طائفة ببغداد  من أصحاب  أحمد  وغيرهم ، وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث ، وقال [10]  : " بكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه نذهب " . 
 [ ص: 10 ] وهذا المذهب هو من أبعد المذاهب عن مذهب الجهمية  والقدرية   . وأما الرافضة  [11]  - كهذا المصنف وأمثاله من متأخري الإمامية   - فإنهم جمعوا أخس المذاهب   : مذهب الجهمية  في الصفات ، ومذهب القدرية  في أفعال العباد ، ومذهب الرافضة  في الإمامة والتفضيل . 
فتبين أن ما نقل عن  علي  من الكلام فهو كذب عليه ، ولا مدح فيه   . وأعظم من ذلك أن القرامطة  الباطنية  ينسبون قولهم إليه ، وأنه أعطي علما باطنا مخالفا للظاهر . 
وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال : " والذي فلق [12] الحبة ، وبرأ النسمة ، ما عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا لم يعهده [13] إلى الناس ، إلا ما في هذه الصحيفة ، وكان فيها : العقل ، وفكاك الأسرى ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في الكتاب  " [14]  . 
ومن الناس من ينسب إليه الكلام في الحوادث ، كالجفر  وغيره ، وآخرون ينسبون إليه البطاقة وأمورا أخرى ، يعلم أن  عليا  بريء منها . 
 [ ص: 11 ] وكذلك  جعفر الصادق  قد كذب عليه من الأكاذيب ما لا يعلمه إلا الله ، حتى نسب إليه القول في أحكام النجوم والرعود ، والبروق والقرعة ، التي هي من الاستقسام بالأزلام ، ونسب إليه كتاب " منافع سور القرآن " ، وغير ذلك مما يعلم العلماء أن جعفرا   - رضي الله عنه - بريء من ذلك ، وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية  ، كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي  في كتاب " حقائق التفسير " ، فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره ، وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده [15]  . 
وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئا من هذه الأقوال ، والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز . 
وكذلك قد نسب إليه بعضهم الكتاب الذي يسمى " رسائل إخوان الكدر " [16] ، وهذا الكتاب صنف بعد  جعفر الصادق  بأكثر من مائتي سنة ; فإن جعفرا  توفي سنة ثمان وأربعين ومائة ، وهذا الكتاب صنف في أثناء الدولة العبيدية  الباطنية  الإسماعيلية  ، لما استولوا على مصر  ، وبنوا [17] القاهرة  ، صنفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيع ، كما كان يسلكه هؤلاء العبيديون  ، الذين كانوا يدعون أنهم من ولد  علي   . 
 [ ص: 12 ] وأهل العلم بالنسب يعلمون أن نسبهم باطل ، وأن جدهم [18] يهودي في الباطن وفي الظاهر ، وجدهم ديصاني من المجوس ، تزوج امرأة هذا اليهودي ، وكان ابنه ربيبا لمجوسي ; فانتسب إلى زوج أمه المجوسي ، وكانوا ينتسبون إلى باهلة  ، على أنهم من مواليهم ، وادعى هو أنه من ذرية محمد بن إسماعيل بن جعفر  ، وإليه انتسب الإسماعيلية  ، وادعوا أن الحق معهم دون الاثني عشرية   ; فإن الاثني عشرية  يدعون إمامة موسى بن جعفر  ، وهؤلاء يدعون إمامة  إسماعيل بن جعفر   . 
وأئمة هؤلاء في الباطن ملاحدة زنادقة ، شر من الغالية ، ليسوا من جنس الاثني عشرية  ، لكن إنما طرقهم على [19] هذه المذاهب الفاسدة ونسبتها إلى  علي  ما فعلته الاثنا عشرية  وأمثالهم ، كذب أولئك عليه نوعا من الكذب [20] ، ففرعه هؤلاء ، وزادوا عليه ، حتى نسبوا الإلحاد إليه ، كما نسب هؤلاء إليه مذهب الجهمية  والقدرية  وغير ذلك . 
ولما كان هؤلاء الملاحدة ، من الإسماعيلية  والنصيرية  ونحوهم ، ينتسبون [21] إلى  علي  ، وهم طرقية  وعشرية  وغرباء ، وأمثال هؤلاء صاروا يضيفون إلى  علي  ما برأه الله منه ، حتى صار اللصوص من العشرية  يزعمون أن معهم كتابا من  علي  ، بالإذن لهم في سرقة أموال الناس  ، كما ادعت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من  علي  بإسقاط الجزية عنهم ،  [ ص: 13 ] وإباحة عشر أموال أنفسهم [22] ، وغير ذلك من الأمور المخالفة لدين الإسلام . 
وقد أجمع العلماء على أن هذا كله كذب على  علي  ، وهو من أبرأ الناس من [23] هذا كله . 
ثم صار هؤلاء يعدون ما افتروه عليه من هذه الأمور مدحا له ، يفضلونه بها على الخلفاء قبله ، ويجعلون تنزه أولئك من مثل الأباطيل [24] عيبا فيهم وبغضا ، حتى صار [25] رؤوس الباطنية تجعل منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار [26] بربوبية الأفلاك ، وأنه ليس وراء الأفلاك صانع لها ولا خالق ، ويجعلون هذا هو باطن دين الإسلام الذي بعث به الرسول ، وأن هذا هو تأويله  ، وأن هذا التأويل ألقاه  علي  إلى الخواص  ، حتى اتصل بمحمد بن إسماعيل بن جعفر  ، وهو عندهم القائم ، ودولته هي القائمة عندهم ، وأنه ينسخ ملة محمد بن عبد الله  ، ويظهر التأويلات الباطنة التي يكتمها التي أسرها إلى  علي   . 
وصار هؤلاء يسقطون عن خواص أصحابهم الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ويبيحون لهم المحرمات من الفواحش والظلم والمنكر [27] وغير ذلك . 
 [ ص: 14 ] وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا معروفة ; لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا ، وصنف فيهم القاضي عبد الجبار  ، والقاضي أبو بكر بن الطيب  ، وأبو يعلى  ،  والغزالي  ،  وابن عقيل  ، وأبو عبد الله الشهرستاني  ، وطوائف غير هؤلاء . 
وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق  والمغرب  ، واليمن  والشام  ، ومواضع متعددة ، كأصحاب الألموت [28] وأمثالهم . 
وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المسلمين [29] وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة   ; لفرط جهلهم وأهوائهم ، وبعدهم من دين الإسلام . 
وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع ، وصاروا يستعينون [30] بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ، ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء ، حتى فعلوا في أهل الإيمان ما لم يفعله عبدة الأوثان والصلبان  ، وكان حقيقة أمرهم دين فرعون  ، الذي هو شر [31] من دين اليهود  والنصارى  وعباد [32] الأصنام . 
وأول دعوتهم التشيع ، وآخرها الانسلاخ من الإسلام ، بل من الملل كلها . 
ومن عرف أحوال الإسلام ، وتقلب الناس فيه ; فلا بد أنه قد عرف شيئا من هذا . 
 [ ص: 15 ] وهذا تصديق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن  " [33]  . 
وفي الحديث الآخر المتفق عليه : " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع " . قالوا : يا رسول الله ، فارس والروم ؟ قال : " ومن الناس إلا هؤلاء ؟ " [34]  . 
وهذا بعينه صار في هؤلاء المنتسبين إلى التشيع ; فإن هؤلاء الإسماعيلية  أخذوا من مذاهب الفرس ، وقولهم بالأصلين : النور والظلمة ، وغير ذلك أمورا ، وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية ، وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان ، وقولهم بالنفس والعقل ، وغير ذلك أمورا ، ومزجوا هذا بهذا ، وسموا ذلك باصطلاحهم : السابق والتالي ، وجعلوه هو القلم واللوح ، وأن القلم هو العقل ، الذي يقول هؤلاء : إنه أول المخلوقات ، واحتجوا بحديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أول ما خلق الله العقل ، قال له : أقبل ، فأقبل . فقال له : أدبر فأدبر . فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، فبك آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب ، وبك العقاب  . 
وهذا الحديث رواه بعض من صنف في فضائل العقل ، كداود بن  [ ص: 16 ] المحبر  [35] ونحوه ، وهو حديث موضوع كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل المعرفة بالحديث ، كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حبان البستي  ،  والدارقطني  ،  وابن الجوزي  وغيرهم [36] ، لكن [37] لما وافق رأي هؤلاء استدلوا به على عادتهم ، مع أن لفظ الحديث يناقض مذهبهم . 
فإن لفظه " أول " بالنصب . وروي أنه " لما خلق الله العقل  " أي أنه قال له هذا الكلام في أول أوقات خلقه ، فالمراد به أنه خاطبه حين خلقه ، لا أنه أول المخلوقات ; ولهذا قال في أثنائه : " ما خلقت خلقا أكرم علي منك  " فدل على أنه خلق قبله غيره ، ووصفه بأنه " يقبل ويدبر "  [ ص: 17 ] والعقل الأول [38] عندهم يمتنع عليه هذا . وقال : " بك ، آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب  " وهذا العقل عندهم ( * هو رب العالم كله ، هو المبدع له كله ، وهو معلول الأول ، لا يختص به أربعة أعراض ، بل هو عندهم * ) [39] مبدع الجواهر كلها : العلوية ، والسفلية ، والحسية [40] ، والعقلية . 
والعقل في لغة المسلمين عرض قائم بغيره وإما قوة في النفس [41]  . 
وأما مصدر [ العقل ] [42]  : عقل يعقل عقلا ، وأما العاقل فلا يسمى في لغتهم العقل . 
وهؤلاء في اصطلاحهم العقل جوهر قائم بنفسه . وقد بسطنا الكلام على هذا ، وبينا حقيقة أمرهم بالمعقول والمنقول ، وأن ما يثبتونه من المفارقات عند التحقيق لا يرجع إلا إلى أمر وجودها في الأذهان لا في الأعيان ، إلا النفس الناطقة ، وقد أخطئوا في بعض صفاتها [43]  . 
وهؤلاء قولهم : إن العالم معلول علة قديمة أزلية واجبة الوجود ، وإن العالم لازم لها ، لكن حقيقة قولهم : إنه علة غائية ، وإن الأفلاك تتحرك حركة إرادية شوقية للتشبه به ، وهو محرك لها ، كما يحرك  [ ص: 18 ] المحبوب المتشبه به لمحبه الذي يتشبه به ، ومثل هذا لا يوجب أن يكون هو المحدث لتصوراته وإرادته وحركاته . 
فقولهم في حركة الفلك من جنس قول القدرية في أفعال [44] الحيوان ، لكن هؤلاء يقولون : حركة الفلك هي سبب الحوادث . فحقيقة قولهم : إن الحوادث كلها تحدث بلا محدث أصلا ، وإن الله لا يفعل شيئا . ولكل مقام مقال . 
وهم جعلوا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الباطن في الوجود ولواحقه ، وقسموا الوجود إلى جوهر وعرض ، ثم قسموا الأعراض إلى تسعة أجناس ، ومنهم من ردها إلى خمسة ، ومنهم من ردها إلى ثلاثة ; فإنه لم يقم لها دليل على الحصر . وقسموا الجواهر [45] إلى خمسة أنواع : العقل ، والنفس ، والمادة ، والصورة ، والجسم . 
وواجب الوجود تارة يسمونه جوهرا ، وهو قول قدمائهم كأرسطو  وغيره ، وتارة لا يسمونه بذلك ، كما قاله  ابن سينا   . وكان قدماء القوم يتصورون في أنفسهم أمورا عقلية ، فيظنونها ثابتة في الخارج ، كما يحكى عن شيعة فيثاغورس  وأفلاطون  [46] ، وأن أولئك أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج ، وهؤلاء أثبتوا المثل الأفلاطونية ، وهي الكليات المجردة عن الأعيان ، وأثبتوا المادة المجردة ، وهي الهيولى الأولية ، وأثبتوا المدة  [ ص: 19 ] المجردة ، وهي الدهر العقلي المجرد عن الجسم وأعراضه ، وأثبتوا الفضاء [47] المجرد عن الجسم وأعراضه . 
وأرسطو وأتباعه خالفوا سلفهم في ذلك ، ولم يثبتوا من هذه شيئا مجردا ، ولكن أثبتوا المادة المقارنة للصورة ، وأثبتوا الكليات المقارنة للأعيان ، وأثبتوا العقول العشرة . وأما النفس الفلكية فأكثرهم يجعلها قوة جسمانية ، ومنهم من يقول : هي جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان . 
ولفظ " الصورة " يريدون به تارة ما هو عرض ، كالصورة الصناعية ، مثل شكل السرير والخاتم والسيف ، وهذه عرض قائم بمحله [48] ، والمادة هنا جوهر قائم بنفسه . ويريدون بالصورة تارة الصورة الطبيعية ، وبالمادة المادة [49] الطبيعية . 
ولا ريب أن الحيوان والمعادن والنبات [50] لها صورة هي خلقت من مواد ، لكن [ يعنون ] [51] بالصورة جوهرا قائما بنفسه ، وبالمادة جوهرا آخر مقارنا لهذه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					