الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ومن أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه عن التشبيه ، وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك . ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله هو ما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين ، أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين ; بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم ، أو يجب له ما يجب لهم ، أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقا .

                  فإن هذا هو التمثيل الممتنع المنفي بالعقل مع الشرع ، فيمتنع وصفه بشيء من النقائص [1] ، ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال ، فهذان جماع لما ينزه الرب تعالى عنه ، كما بسطنا ذلك في مواضع كثيرة .

                  وعلى هذا وهذا دل قوله تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) [ سورة الإخلاص ] ، كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد في تفسير هذه الشواهد [2] .

                  فأما الموافقة في الاسم ، كحي وحي ، وموجود وموجود ، وعليم وعليم - فهذا لا بد منه ، ويلزم من نفى هذا التعطيل المحض ; فإن كل [ ص: 30 ] موجودين قائمين بأنفسهما ، فحينئذ [3] لا بد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام [4] ، لكن المعنى العام [5] لا يوجد عاما إلا في الذهن ، لا [6] في الخارج .

                  فإذا قيل : هذا الموجود وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود ، كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركا إلا في الذهن لا في الخارج [7] ، وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه ، لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج ، وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق ، والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن ، فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزا عن نظيره ، لا يكون هو إياه ، ولا هما في الخارج ، مشتركان في شيء في الخارج .

                  فاسم الخالق إذا وافق اسم المخلوق ، كالموجود والحي - وقيل : إن هذا الاسم عام كلي ، وهو من الأسماء المتواطئة أو المشككة [8] - لم يلزم من ذلك أن يكون ما يتصف به الرب من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه المخلوق ، بل ولا يكون ما يتصف به أحد المخلوقين من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه مخلوق آخر ، بل وجود هذا يخصه [ ص: 31 ] ووجود هذا يخصه ، لكن ما يتصف به المخلوق قد يماثل ما يتصف به المخلوق ، ويجوز على أحد المثلين ما يجوز على الآخر .

                  وأما الرب سبحانه وتعالى فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته ، بل التباين الذي بينه وبين كل واحد من خلقه في صفاته ، أعظم من التباين الذي بين أعظم المخلوقات وأحقرها . وأما المعنى الكلي العام المشترك فيه ، فذاك - كما ذكرنا - لا يوجد كليا إلا في الذهن .

                  وإذا كان المتصفان به بينهما نوع موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه ، فذاك لا محذور فيه ; فإنه [9] ما يلزم ذلك القدر المشترك من وجوب وجواز وامتناع فإن الله متصف به ، فالموجود من حيث هو موجود ، أو العليم أو الحي ، مهما قيل : إنه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز ، فالله موصوف به ، بخلاف وجود المخلوق وحياته وعلمه ، فإن الله لا يوصف بما يختص به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة ، كما أن المخلوق لا يوصف بما يختص به الرب من وجوب وجواز واستحالة .

                  فمن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة ، يعثر فيها كثير من الأذكياء ، الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية ، فهذا أحد أقوالهم في الوجود الواجب ، وهو المطلق بشرط الإطلاق عن النفي والإثبات ، وهو أكملها في التعطيل والإلحاد .

                  والثاني قول ابن سينا وأتباعه : إنه هو الوجود المقيد ( * بالقيود السلبية [ ص: 32 ] لا الثبوتية ، وقد يعبر عنه بأنه الوجود المقيد * ) [10] تارة [11] لا يعرض له شيء من الماهيات ، كما يعبر الرازي وغيره .

                  وهذه العبارات - بناءا على قولهم : إن الوجود يعرض للماهية الممكنة . فإن للناس ثلاثة أقوال : قيل : إن الوجود زائد على الماهية في الواجب والممكن ، كما يقول ذلك أبو هاشم وغيره ، وهو أحد قولي الرازي ، وقد يقوله بعض النظار من أصحاب أحمد وغيرهم .

                  وقيل : بل الوجود في الخارج هو الحقيقة الثابتة في الخارج ، ليس هناك شيئان ، وهذا قول الجمهور من أهل الإثبات ، وهذا قول عامة النظار من مثبتة الصفات من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ، لكن ظن الشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم أن قائل هذا القول يقول : إن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي ، ونقلوا ذلك عن الأشعري وغيره ، وهو غلط عليهم ; فإن أصحاب هذا القول هم جماهير الخلق من الأولين والآخرين ، وليس فيهم من يقول بأن لفظ " الوجود " مقول بالاشتراك اللفظي ، إلا طائفة قليلة ، وليس هذا قول الأشعري وأصحابه ، بل هم متفقون على أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث ، واسم الوجود يعمهما .

                  لكن الأشعري ينفي الأحوال ، ويقول : العموم والخصوص يعود إلى الأقوال ، ومقصوده أنه ليس في الخارج معنى كلي عام ، ليس مقصوده أن الذهن لا يقوم به معنى عام كلي .

                  [ ص: 33 ] وهؤلاء الذين قالوا : إن من قال : وجود كل شيء هو نفس حقيقته الموجودة ، إنما هذا هو قول بالاشتراك اللفظي ; لأنهم قالوا إذا جعلنا الوجود عاما من الألفاظ المتواطئة المتساوية ، أو المتفاضلة [12] التي تسمى المشككة ، وقلنا : إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ، وقديم ومحدث ، كان النوعان قد اشتركا في مسمى الوجود ، وهو كلي مطلق ، فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه ، وهو حقيقة ; فيلزم أن يكون لكل منهما حقيقة غير الوجود .

                  فمن قال إن الشيء الموجود في الخارج ليس شيئا غير الحقيقة الموجودة في الخارج ، لم يمكنه أن يقول : لفظ الوجود يعمهما ، بل يقول : هو مقول عليهما بالاشتراك اللفظي .

                  وهذا غلط ضلت فيه طوائف ، كالرازي وأمثاله .

                  بيان ذلك من ثلاثة وجوه : أحدها : أن يقال : لفظ الوجود كلفظ الحقيقة ، وكلفظ الماهية ، وكلفظ الذات والنفس ، فإذا قلتم : الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ، أو قديم ومحدث - كان بمنزلة قولكم : الحقيقة تنقسم إلى واجبة وممكنة ، أو إلى قديمة ومحدثة ، وبمنزلة قولهم : الذات تنقسم إلى هذا وهذا وهذا ، والماهية تنقسم إلى هذا وهذا ، ونحو ذلك من الأسماء العامة ، وبمنزلة قولهم : الشيء ينقسم إلى واجب وممكن ، وقديم وحادث .

                  وحينئذ فإذا قلتم : يشتركان في الوجود أو الوجوب [13] ، ويمتاز أحدهما [ ص: 34 ] عن الآخر بالحقيقة أو الماهية [14] - كان بمنزلة أن يقال : يشتركان في الماهية أو الحقيقة [15] ، ويمتاز أحدهما عن الآخر بالوجود أو الوجوب [16] .

                  فإن قلتم : إنما اشتركا في الوجود العام الكلي ، وامتاز كل منهما بالحقيقة التي تخصه .

                  قيل : وكذلك يقال : إنما اشتركا في الحقيقة العامة الكلية ، وامتاز كل منهما بالوجود الذي يخصه ; فلا فرق حينئذ بين ما جعلتموه كليا مشتركا [17] ، كالجنس والعرض العام ، وبين ما جعلتموه مختصا مميزا جزئيا ، كالفصل والخاصة . لكن عمدتم إلى شيئين متساويين في العموم والخصوص ، فقدرتم أحدهما في حال عمومه ، والآخر في حال خصوصه ، فهذا كان من تقديركم ، وإلا فكل منهما يمكن فيه التقدير كما أمكن في الآخر ، وكل منهما في نفس الأمر مساو للآخر في عمومه وخصوصه ، وكونه مشتركا ومميزا ، فلا فرق في نفس الأمر بين ما جعلتموه جنسا أو عرضا عاما ، وما جعلتموه فصلا أو خاصة ، إلا أنكم قدرتم أحد المتساويين عاما والآخر خاصا .

                  الوجه الثاني : أن يقال : إذا قلتم : الموجودان يشتركان في مسمى الوجود ، فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بأمر آخر .

                  قيل لكم : المميز أن يكون وجودا [18] خاصا ، فلم قلتم : إنه [ ص: 35 ] يكون شيء خارج [19] عن مسمى الوجود حتى تثبتون حقيقة أخرى ، وهذا كما إذا قلنا : الإنسانان يشتركان في مسمى الإنسانية ، وأحدهما يمتاز عن الآخر بخصوصية أخرى - كان المميز إنسانيته التي تخصه ، لم يحتج أن يجعل المميز شيئا غير الإنسانية يعرض له الإنسانية .

                  ولكن هؤلاء يظنون أن الأنواع المشتركة في كلي لا يفصل بينها إلا مواد أخرى . وفي هذا الموضع كلام مبسوط على غلط أهل المنطق فيما غلطوا فيه في الكليات ، وتقسيم الكليات ، وتركيب الحدود من الذاتيات وغير ذلك ، ومواد الأقيسة ، والفرق بين اليقيني وغير اليقيني منها ، وغير ذلك مما هو مكتوب في غير هذا الموضع .

                  الوجه الثالث : أن يقال : إذا قلنا : الموجودان يشتركان في مسمى الوجود ، وأحدهما لا بد أن يمتاز عن الآخر . فليس المراد أنهما اشتركا في أمر بعينه موجود في الخارج ; فإن هذا ممتنع ، بل المراد أنهما اتفقا في ذلك وتشابها فيه من هذه الجهة ، ونفس ما اشتركا فيه لا يكون بعينه مشتركا فيه إلا في الذهن ، لا في الخارج ، وإلا فنفس وجود هذا لم يشركه فيه هذا .

                  وحينئذ فإذا قلنا : لفظ " الوجود " [20] من الألفاظ العامة الكلية المتواطئة أو المشككة ، وهي المتواطئة التي تتفاضل معانيها ، لا تتماثل مع الاتفاق في أصل المسمى ، كالبياض المقول على بياض الثلج القوي وبياض [ ص: 36 ] العاج الضعيف ، والسواد المقول على سواد القار وعلى سواد الحبشة ، والعلو المقول على علو السماء وعلى علو السقف ، والواسع المقول على البحر وعلى الدار الواسعة ، والوجود المقول على الواجب بنفسه وعلى الممكن الموجود بغيره ، وعلى القائم بنفسه والقائم بغيره ، والقديم المقول على العرجون وعلى ما لا أول له ، والمحدث المقول على ما أحدث في اليوم وعلى كل ما خلقه الله بعد أن لم يكن ، والحي الذي يقال على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحي القيوم الذي لا يموت أبدا .

                  بل أسماء الله [ الحسنى ] [21] تعالى التي تسمى بها خلقه ، كالملك ، والسميع والبصير ، والعليم والخبير [22] ، ونحو ذلك ، كلها من هذا الباب .

                  فإذا قيل : في جميع الألفاظ العامة ومعانيها العامة - سواء كانت متماثلة أو متفاضلة - إن أفرادها اشتركت فيها أو اتفقت ونحو ذلك ، لم يرد به أن في الخارج معنى عاما يوجد [23] عاما في الخارج ، وهو نفسه مشترك ، بل المراد أن الموجودات المعينة اشتركت في هذا العام ، الذي لا يكون عاما إلا في علم العالم ، كما أن اللفظ العام لا يكون عاما إلا في لفظ اللافظ ، والخط العام لا يكون عاما إلا في خط الكاتب .

                  والمراد بكونه عاما شموله للأفراد الخارجة ، لا أنه [24] نفسه شيء [ ص: 37 ] موجود يكون هو [25] نفسه مع هذا المعين ، وهو نفسه مع هذا المعين ; فإن هذا [26] مخالف للحس والعقل .

                  والمقصود هنا أن ابن سينا مذهبه أن الوجود الواجب لنفسه هو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية ، لا بجعله مقيدا [27] بسلب النقيضين ، أو بالإمساك عن النقيضين ، كما فعل السجستاني وأمثاله من القرامطة [ وغيرهم ] [28] ، وعبر ابن سينا عن قولهم بأنه الوجود المقيد بأنه لا يعرض لشيء من الحقائق ، أو لشيء من الماهيات ; ( * لاعتقادهم أن الوجود يعرض للممكنات ، وهو يقول : وجود الواجب نفس ماهيته .

                  والجمهور من أهل السنة يقولون ذلك ، لكن الفرق بينهما أن عنده : هو وجود مطلق بشرط سلب الماهيات * )[29] عنه ، فليس له ماهية سوى الوجود المقيد بالسلب .

                  وأما الأنبياء وأتباعهم وجماهير العقلاء فيعلمون أن الله له حقيقة يختص بها ، لا تماثل [30] شيئا من الحقائق ، وهي موجودة .

                  وطائفة من المعتزلة ومن وافقهم يقولون : هي موجودة بوجود زائد على حقيقتها .

                  [ ص: 38 ] وأما الجمهور فيقولون : الحقائق المخلوقة ليست في الخارج ، إلا الموجود الذي هو الحقيقة التي في الخارج ، وإنما يحصل الفرق بينهما بأن يجعل أحدهما ذهنيا ، والآخر خارجيا ، فإذا جعلت الماهية أو الحقيقة اسما لما في الذهن ، كان ذلك غير ما في الخارج . وأما إذا قيل : الوجود الذهني فهو الماهية الذهنية ، وإذا قيل : الماهية الخارجية فهي الوجود الخارجي ، فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق أولى .

                  ومذهب ابن سينا معلوم الفساد بضرورة العقل بعد التصور التام ; فإنه إذا اشترك الموجودان في مسمى الوجود ، لم يميز أحدهما عن الآخر بمجرد السلب ، فإن التمييز في نفس الأمر بين المشتركين لا يكون بمجرد العدم المحض ; إذ العدم المحض ليس بشيء ، وما ليس بشيء لا يحصل منه الامتياز في نفس الأمر ، ولا يكون الفاصل بين الشيئين الموجودين الذي يختص بأحدهما إلا أمرا ثبوتيا ، أو متضمنا لأمر ثبوتي .

                  وهذا مستقر عندهم في المنطق ، فكيف يكون وجود الرب مماثلا لوجود الممكنات في مسمى الوجود [31] ولا يمتاز عن المخلوقات إلا بعدم محض لا ثبوت فيه ؟

                  بل على هذا التقدير يكون أي موجود قدر أكمل من هذا الموجود ; فإن ذلك الموجود مختص - مع وجوده - بأمر ثبوتي عنده ، والوجود الواجب لا يختص عنده إلا بأمر عدمي ، مع تماثلهما في مسمى الوجود .

                  فهذا القول يستلزم مماثلة الوجود الواجب لوجود كل ممكن في [ ص: 39 ] الوجود ، وأن لا يمتاز عنه إلا بسلب الأمور الثبوتية .

                  والكمال هو في الوجود لا في العدم ; إذ العدم المحض لا كمال فيه ، فحينئذ يمتاز عن الممكنات بسلب جميع الكمالات ، وتمتاز عنه بإثبات جميع الكمالات .

                  وهذا غاية ما يكون من تعظيم الممكنات في الكمال والوجود ، ووصف الوجود الواجب بالنقص والعدم .

                  وأيضا فهذا الوجود الذي لا يمتاز عن غيره إلا بالأمور العدمية [32] يمتنع وجوده في الخارج ، بل لا يمكن إلا في الذهن ; لأنه إذا شارك سائر الموجودات في مسمى الوجود كان هذا كليا ، والوجود لا يكون كليا إلا في الذهن ، لا في الخارج ، والأمور العدمية المحضة لا توجب ثبوته [33] في الخارج ، فإن ما في الذهن هو بسلب الحقائق الخارجية عنه أحق بسلبها [34] عما في الخارج ، لو كان ذلك ممكنا في الخارج ، فكيف إذا كان ممتنعا ؟

                  فإذا كان الكلي لا يكون إلا ذهنيا ، والقيد العدمي لا يخرجه عن أن يكون كليا ، ثبت أنه لا يكون في الخارج .

                  وأيضا فإن ما في الخارج لا يكون إلا معينا ، له وجود يخصه ، فما لا يكون كذلك لا يكون إلا في الذهن .

                  [ ص: 40 ] فثبت بهذه الوجوه الثلاثة - وغيرها - أن ما ذكره في واجب الوجود لا يتحقق إلا في الذهن ، لا في الخارج .

                  فهذا قول من قيده بالأمور العدمية .

                  ولهم قول ثالث ، وهو الوجود المطلق لا [35] بشرط الإطلاق ، الذي يسمونه الكلي الطبيعي ، وهذا لا يكون في الخارج إلا معينا ، فيكون من جنس القولين قبله ، ومنهم من يظن أنه ثابت في الخارج ، وأنه جزء من المعينات [36] ، فيكون الوجود الواجب المبدع لكل ما سواه : إما عرضا قائما بالمخلوقات ، وإما جزءا منها ، فيكون الواجب مفتقرا إلى الممكن عرضا فيه ، أو جزءا منه ، بمنزلة الحيوانية في الحيوانات ، لا تكون هي الخالقة للحيوان ، ولا الإنسانية هي المبدعة للإنسان ; فإن جزء الشيء وعرضه لا يكون هو الخالق له ، بل الخالق مباين له منفصل عنه ; إذ جزؤه وعرضه داخل فيه ، والداخل في الشيء لا يكون هو المبدع له كله [37] .

                  فما وصفوا به رب العالمين يمتنع معه [38] أن يكون خالقا [39] لشيء من الموجودات ، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء ، وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر [40] .

                  [ ص: 41 ] والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة حقيقة قولهم [41] تعطيل الخالق ، وجحد حقيقة النبوات والمعاد والشرائع ، وينتسبون إلى موالاة علي ، ويدعون أنه كان على هذه الأقوال ، كما تدعي القدرية والجهمية والرافضة أنه كان على قولهم أيضا ، ويدعون أن هذه الأقوال مأخوذة عنه ، وهذا كله باطل كذب على علي - رضي الله عنه - .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية