وأما قوله : " إنه رد عمر إلى قضايا كثيرة قال فيها : لولا علي لهلك عمر " .
فيقال : هذا لا يعرف أن عمر قاله إلا في قضية واحدة ، إن صح ذلك ، وكان عمر يقول مثل هذا لمن هو دون علي .
قال للمرأة التي عارضته في الصداق : رجل أخطأ وامرأة أصابت . وكان قد رأى أن الصداق ينبغي أن يكون مقدرا بالشرع ، فلا يزاد على صداق أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وبناته ، كما رأى كثير من الفقهاء أن أقله مقدر بنصاب السرقة . وإذا كان مقدرا بالشرع . والفاضل قد بذله الزوج واستوفى عوضه [1] ، والمرأة لا تستحقه ، فيجعل في بيت المال ، كما يجعل في بيت المال ثمن [2] عصير الخمر إذا باعه المسلم ، [ ص: 63 ] وأجرة من أجر نفسه لحمل الخمر ، ونحو ذلك ، على أظهر أقوال العلماء .
فإن من استوفى منفعة محرمة بعوضها ، كالذي يزني بالمرأة بالجعل ، أو يستمع الملاهي بالجعل ، أو يشرب الخمر بالجعل ، إن أعيد إليه جعله بعد قضاء غرضه ، فهذا زيادة في إعانته على المعصية ، فإن كان يطلبها بالعوض ، فإذا حصلت له هي والعوض كان ذلك أبلغ في إعانته على الإثم والعدوان ، وإن أعطي ذلك للبائع والمؤجر كان قد أبيح له العوض الخبيث ، فصار مصروف [3] هذا المال في مصالح المسلمين .
وعمر إمام عدل ، فكان قد رأى أن الزائد على المهر الشرعي يكون هكذا ، فعارضته امرأة وقالت : لم تمنعنا شيئا أعطانا الله إياه في كتابه ؟ فقال : وأين في كتاب الله ؟ فقالت : في قوله تعالى : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) [ سورة النساء : 20 ] ، وروي أنها قالت له : أمنك نسمع أم من كتاب الله تعالى ؟ قال : بل من كتاب الله . فقرأت عليه الآية ; فقال : رجل أخطأ وامرأة أصابت [4] .
[ ص: 64 ] ومع هذا فقد أخبر النبي [5] - صلى الله عليه وسلم - [ في حق عمر ] [6] من العلم والدين والإلهام ، بما لم يخبر بمثله ، لا في حق عثمان ، ولا علي ، ولا طلحة ، ولا الزبير [7] .
وفي الترمذي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " [8] .
قال [9] : وقال ابن عمر : ما نزل بالناس أمر قط ، فقالوا فيه ، وقال عمر فيه ، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر .
وفي سنن أبي داود عن أبي ذر قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به " [10] .
وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لو كان بعدي نبي لكان عمر " [11] .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس [12] محدثون من غير أن [ ص: 65 ] يكونوا أنبياء ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر " [13] . قال ابن وهب : تفسير محدثون : ملهمون . وقال ابن عيينة : محدثون : أي مفهمون .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص ، فمنها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره " . قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : " الدين " [14] .
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه ، حتى إني لأرى [15] الري يخرج من تحت أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب " . ( * قال من حوله : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : " العلم " [16] .
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " يا ابن الخطاب * ) [17] ، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك " [18] .
وفي الصحيحين عن أنس أن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : [ ص: 66 ] قلت : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ; فنزلت : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ سورة البقرة : 125 ] . وقلت : يا رسول الله : يدخل على نسائك البر والفاجر ، فلو أمرتهن يحتجبن ; فنزلت آية الحجاب . واجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة ، فقلت : ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) [ سورة التحريم : 5 ] ; فنزلت كذلك " [19] .
وهذا الباب في فضائل عمر كثير جدا .
وأما قصة الحكومة في الأرغفة [20] ، فهي مما يحكم فيها - وما هو أدق منها - من هو [21] دون علي . وللفقهاء في تفاريع مسائل القضاء والقسمة وغير ذلك من الدقائق ما هو أبلغ من هذه ، وليسوا مثل علي .


