قال الرافضي [1] : " الرابع : أنه كان أشجع الناس ، وبسيفه ثبتت [2] قواعد الإسلام ، وتشيدت أركان الإيمان ، ما انهزم في مواطن [3] قط ، ولا ضرب بسيف [4] إلا قط ، طالما [5] كشف الكرب عن وجه رسول الله [6] - صلى الله عليه وسلم - ولم يفر كما فر غيره ، ووقاه بنفسه لما بات على [7] فراشه ، مستترا بإزاره ، فظنه المشركون إياه ، وقد اتفق المشركون على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم [8] - فأحدقوا به وعليهم السلاح ، يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا ; فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل ، ولا يتم لهم الأخذ بثأره ; لاشتراك الجماعة في دمه ، ويعود كل قبيل عن قتال رهطه ، وكان ذلك [ ص: 76 ] سبب حفظ دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمت السلامة ، وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة ، فلما أصبح القوم ، ورأوا [9] الفتك به ، ثار إليهم ، فتفرقوا عنه حين عرفوه [10] ، وانصرفوا وقد ضلت حيلهم [11] ، وانتقض تدبيرهم " .
والجواب : أنه لا ريب أن عليا - رضي الله عنه - كان من شجعان الصحابة ، وممن نصر الله الإسلام بجهاده ، ومن كبار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار [12] ، ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ، وممن قتل بسيفه عددا من الكفار ، لكن لم يكن هذا من خصائصه ، بل غير واحد من الصحابة شاركه في ذلك ، فلا يثبت بهذا فضله في الجهاد على كثير من الصحابة ، فضلا عن أفضليته على الخلفاء ، فضلا عن تعيين [13] للإمامة .
وأما قوله : " إنه كان أشجع الناس " .
فهذا كذب ، بل كان أشجع [14] الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . كما في الصحيحين عن أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه [ ص: 77 ] وسلم - أحسن الناس ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعا وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة عري ، في [15] عنقه السيف ، وهو يقول : " لن تراعوا " . قال البخاري : استقبلهم وقد استبرأ الخبر [16] .
وفي المسند عن علي - رضي الله عنه - قال : " كان إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كان أقرب إلى العدو منا " [17] .
والشجاعة تفسر بشيئين : أحدهما : قوة القلب وثباته عند المخاوف . والثاني : شدة [18] القتال بالبدن ، بأن يقتل كثيرا ، ويقتل قتلا عظيما .
والأول : هو الشجاعة ، وأما الثاني فيدل على قوة البدن وعمله .
وليس كل من كان قوي البدن كان قوي القلب ، ولا بالعكس ; ولهذا [ ص: 78 ] تجد الرجل الذي يقتل كثيرا ويقاتل إذا كان معه من يؤمنه ، إذا خاف أصابه الجبن ، وانخلع قلبه . وتجد الرجل الثابت القلب ، الذي لم يقتل بيديه كثيرا ، ثابتا في المخاوف ، مقداما على المكاره [19] . وهذه الخصلة يحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى ; فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتا ، أقدم وثبت ولم ينهزم ، فقاتل معه أعوانه ، وإذا كان جبانا ضعيف القلب ذل ولم يقدم ولم يثبت ، ولو كان قوي البدن .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أكمل الناس في هذه الشجاعة ، التي هي المقصودة في أئمة الحرب ، ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف ، قتله يوم أحد ، ولم يقتل بيده أحدا لا قبلها ولا بعدها . وكان أشجع من جميع الصحابة ، حتى إن جمهور أصحابه انهزموا يوم حنين ، وهو راكب على بغلة ، والبغلة لا تكر ولا تفر ، وهو يقدم عليها إلى ناحية العدو ، وهو يقول :
أنا النبي لا [20] كذب أنا ابن عبد المطلب
فيسمي نفسه ، وأصحابه قد انكفوا عنه ، وعدوه مقدم عليه ، وهو مقدم على عدوه على بغلته ، والعباس آخذ بعنانها [21] .
وكان علي - وغيره - يتقون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه [ ص: 79 ] أشجع منهم ، وإن كان أحدهم قد قتل بيده [22] ، أكثر مما قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة شجاعة القلب ، فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر ، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير ، وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم ; فإن أبا بكر - رضي الله عنه - باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أول الإسلام إلى آخره ، ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل ، وكان يقدم على المخاوف : يقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ، يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله ، وهو في ذلك كله مقدم .
وكان يوم بدر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في العريش ، مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ثابت القلب ، ربيط الجأش ، يظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعاونه ، ولما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه ويستغيث ويقول : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، اللهم ، اللهم . . . " جعل [23] أبو بكر يقول له : " يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك " [24] .
وهذا يدل على كمال يقين الصديق ، وثقته بوعد الله ، وثباته ، وشجاعته : شجاعة إيمانية [25] زائدة على الشجاعة الطبيعية .
[ ص: 80 ] وكان حال رسول الله أكمل من حاله ، ومقامه أعلى من مقامه . ولم يكن الأمر - كما ظنه بعض الجهال - أن حال أبي بكر أكمل [26] - نعوذ بالله من ذلك - ولا نقص في استغاثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في هذا المقام ، كما توهمه بعض الناس ، وتكلم ابن عقيل وغيره في هذا الموضع بخطل من القول مردود على من قاله ، بل كان رسول الله - صلى الله عليه - جامعا كاملا ، له من كل مقام ذروة سنامه ووسيلته ، فيعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباب قدح في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ، ويعلم أن عليه أن يجاهد المشركين ويقيم الدين بكل ما يقدر عليه من جهاده بنفسه وماله وتحريضه للمؤمنين ، ويعلم أن الاستنصار بالله والاستغاثة به والدعاء له فيه أعظم الجهاد وأعظم الأسباب في تحصيل المأمور ودفع المحذور .
ولهذا كان يستفتح بصعاليك المهاجرين [27] ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أقبلت قريش - ومعه أصحابه - أخبر [28] أصحابه بمصارعهم ، وقال : " هذا مصرع عتبة بن ربيعة ، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة ، وهذا مصرع أمية بن خلف ، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام ، [ ص: 81 ] وهذا مصرع فلان " [29] ، ثم مع علمه أن ذلك سيكون ، يعلم أن الله إذا قضى شيئا يكون ، فلا يمنع ذلك أن يقضيه بأسباب تكون ، وأن من الأسباب ما يكون العباد مأمورين به ، ومن أعظم ما يؤمر به الاستغاثة [30] بالله ، فقام بما يؤمر به ، مع علمه بأنه سيكون ما وعد به ، كما أنه يعبد الله ويطيعه ، مع علمه بأن له السعادة في الآخرة .
والقلب إذا غشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عنه شهود ما يعلمه ، ولا يمنعه ذلك أن يكون عالما به ، مصدقا له ، ولا أن يكون في اجتهاد وجهاد بمباشرة الأسباب . ومن علم أنه إذا مات يدخل الجنة [31] ، [ ص: 82 ] لم يمنع [32] أن يجد بعض ألم الموت ، والمريض الذي إذا أخبر أن في دوائه العافية ، لا يمنعه ذلك أن يجد مرارة الدواء - فقام مجتهدا في الدعاء المأمور به ، وكان هو رأس الأمر ، وقطب رحى الدين ، فعليه أن يقوم بأفضل مما [33] يقوم به غيره .
وذلك الدعاء والاستغاثة كان أعظم الأسباب التي نزل بها النصر . ومقام أبي بكر دون هذا ، وهو معاونة الرسول والذب عنه ، وإخباره بأنا واثقون بنصر الله تعالى ، والنظر إلى جهة العدو ، وهل قاتلوا المسلمين أم لا ؟ والنظر إلى صفوف المسلمين لئلا تختل ، وتبليغ المسلمين ما يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال .
ولهذا قال تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ) [ سورة التوبة : 40 ] . وأخبر تعالى أن الناس إذا لم ينصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار .
وهذه الحال كان الخوف فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره . وسيأتي الكلام على هذه القصة في آخر الكتاب . والوزير مع الأمير له حال ، وللأمير [34] حال .
والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس ، ولم يكن بعد الرسول [ ص: 83 ] - صلى الله عليه وسلم - أشجع منه ; ولهذا لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم ، حتى أوهنت العقول ، وطيشت [35] الألباب ، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوي [36] البعيدة القعر ، فهذا ينكر موته ، وهذا قد أقعد ، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه ، وهؤلاء يضجون بالبكاء ، وقد وقعوا في نسخة القيامة ، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى ، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين ، وذلت كماته ، فقام الصديق - رضي الله عنه - بقلب ثابت ، وفؤاد شجاع ، فلم يجزع ، ولم ينكل ، قد جمع له بين الصبر واليقين ، فأخبرهم بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الله اختار له ما عنده ، وقال لهم : " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ سورة آل عمران : 144 ] ، فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق [37] ، فلا تجد أحدا إلا وهو يتلوها ، ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم .
قال أنس : " خطبنا أبو بكر - رضي الله عنه - وكنا كالثعالب ، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود " .
[ ص: 84 ] وأخذ في تجهيز أسامة ، مع إشارتهم عليه ، وأخذ في قتال المرتدين ، مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص ، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة ، فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا ، ويقويهم إذا ضعفوا ، ويحثهم إذا فتروا ، فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم ، حتى كان عمر - مع كمال قوته وشجاعته - يقول له : يا خليفة رسول الله تألف الناس ، فيقول : علام أتألفهم ؟ أعلى دين مفترى ؟ أم على شعر مفتعل ؟ وهذا باب واسع يطول وصفه .
فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل منها في أبي بكر ، ثم عمر . وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي ، فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع ، فكثير من الصحابة أشجع من علي ، فالبراء بن مالك [38] - أخو أنس - قتل مائة رجل مبارزة ، غير من شورك في دمه .
وأما خالد بن الوليد فلا يحصي عدد من قتله إلا الله ، وقد انكسر في يده في غزوة مؤتة تسعة أسياف ، ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي .
وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية ، وهي قوة [39] يقينية بالله عز وجل ، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين . وهذه الشجاعة لا تحصل بكل من كان [40] قوي القلب ، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين ، [ ص: 85 ] وتنقص بنقص ذلك ، فمتى تيقن أنه يغلب عدوه كان إقدامه عليه ، بخلاف إقدام من لم يكن كذلك ، وهذا كان من أعظم أسباب شجاعة المسلمين وإقدامهم على عدوهم ، فإنهم كانوا أيقنوا بخبر الله ورسوله : أنهم منصورون وأن الله [41] يفتح لهم البلاد .
ومن شجاعة الصديق ما في الصحيحين عن عروة بن الزبير قال : سألت عبد الله بن عمرو [42] عن أشد ما صنع المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، فوضع رداءه في [43] عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فجاء أبو بكر فدفعه عنه ، وقال : ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) [ سورة غافر : 28 ] [44] .


