الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " وفي غزاة أحد لما انهزم الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا علي بن أبي طالب ، ورجع [2] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر يسير ، أولهم عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : لقد ذهبت فيها عريضة . وتعجبت الملائكة من شأن علي [3] ، فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي

                  وقتل أكثر [4] المشركين في هذه الغزاة ، وكان الفتح فيها على يده . وروى قيس بن سعد قال [5] : سمعت عليا يقول : أصابني [ ص: 97 ] يوم أحد ستة عشر ضربة [6] ، سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فجاءني رجل حسن الوجه ، حسن اللمة [7] ، طيب الريح ، فأخذ بضبعي ، فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله ، فهما عنك راضيان . قال علي : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته ، فقال : يا علي أما تعرف الرجل ؟ قلت : لا ولكن شبهته بدحية الكلبي . فقال : يا علي أقر الله عينيك [8] ، كان ذاك جبريل " [9] .

                  والجواب : أن يقال : قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام ، التي لا تنفق إلا على من لم يعرف الإسلام ، وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات ، كقوله : " إن عليا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة ، وكان الفتح فيها على يده " .

                  فيقال : آفة الكذب الجهل . وهل كان في هذه الغزاة فتح ؟ بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولا ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكل بثغرة الجبل الرماة ، وأمرهم بحفظ ذلك المكان ، وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غلبوا ، فلما انهزم المشركون صاح بعضهم : أي قوم الغنيمة ! فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير ، ورجع العدو عليهم ، وأمير المشركين [ ص: 98 ] إذ ذاك خالد بن الوليد ، فأتاهم من ظهورهم ، فصاح الشيطان : قتل محمد . واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين ، ولم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا ، فيهم أبو بكر وعمر .

                  وأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ والحديث في الصحيحين [10] ، وقد تقدم لفظه [11] ، وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص ، وانصرف العدو عنهم منتصرا ، حتى هم بالعود [12] إليهم ، فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين للحاقه .

                  وقيل : إن في هؤلاء نزل قوله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) [ سورة آل عمران: 172 ] ، وكان في هؤلاء المنتدبين : أبو بكر والزبير ، قالت عائشة لابن الزبير : أبوك وجدك ممن قال الله فيهم : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) [13] ، ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا نفر قليل ، وقصد العدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتهدوا في قتله ، وكان ممن ذب عنه [ ص: 99 ] يومئذ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وجعل يرمي عنه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له : " ارم فداك أبي وأمي " .

                  وفي الصحيحين عن سعد قال : جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبويه يوم أحد [14] . وكان سعد مجاب الدعوة مسدد الرمية .

                  وكان فيهم أبو طلحة راميا ، وكان [15] شديد النزع ، وطلحة بن عبيد الله : وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلت يده . وظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين درعين ، وقتل دونه نفر .

                  قال ابن إسحاق في " السيرة " في النفر الذين قاموا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [16] : " ترس دون النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو دجانة بنفسه : يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه ، حتى كثر فيه النبل . ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي - صلى الله عليه وسلم . قال سعد : فلقد رأيته يناولني النبل ، ويقول [17] : " ارم فداك أبي وأمي " ، حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل ، فيقول : " ارم " [18] .

                  [ ص: 100 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين غشيه القوم : " من رجل [19] يشري لنا نفسه ؟ " . . . فقام [20] زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار - وبعض الناس يقول : إنما هو عمارة بن زيد [21] بن السكن - فقاتلوا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا ، ثم رجلا ، يقتلون دونه ، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة [22] ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " أدنوه مني " فأدنوه منه ، فوسده قدمه ، فمات وخده على قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

                  قال [23] : " وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى عن قوسه [24] حتى اندقت سيتها [25] ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنته [26] . وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردها بيده وكانت [27] أحسن عينيه وأحدهما " [28] .

                  [ ص: 101 ] ولم يكن علي ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا مشغولين بقتال آخرين ، وجرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبينه ، ولم يجرح علي .

                  فقوله : " إن عليا قال أصابتني يوم أحد ست عشرة [29] ضربة ، سقطت إلى الأرض في أربع منهن " [30] .

                  كذب على علي ، وليس هذا الحديث في شيء من الكتب المعروفة عند أهل العلم . فأين إسناد هذا ؟ ومن الذي صححه من أهل العلم ؟ وفي أي كتاب من الكتب التي يعتمد على نقلها ذكر هذا ؟ بل الذي جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الصحابة .

                  قال ابن إسحاق [31] : " فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس [32] فجاء [ ص: 102 ] به رسول [33] الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منه ، فوجد له ريحا ، فعافه فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : " اشتد غضب الله على من أدمى [34] وجه نبيه " [35] .

                  وقوله : " إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام " كذب آخر .

                  وقوله : " إن جبريل قال وهو يعرج :


                  لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي

                  [36] " .

                  كذب باتفاق الناس ; فإن ذا الفقار لم يكن لعلي ، ولكن كان سيفا لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر ، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال : تنفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه [ ص: 103 ] ذا الفقار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد . قال : " رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم ، ورأيت أني مردف كبشا ، فأولته كبش الكتيبة ، ورأيت أني في درع حصينة ، فأولتها المدينة ، ورأيت بقرا تذبح ، فبقر والله خير " فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم [37] .

                  وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهال : أنه كان له سيف يمتد إذا ضرب به كذا وكذا ذراعا ، فإن هذا مما يعلم العلماء أنه لم يكن قط ، لا سيف علي ولا غيره . ولو كان سيفه يمتد لمده يوم قاتل معاوية .

                  [ ص: 104 ] وقال بعض الجهال : إنه مد يده حتى عبر الجيش على يده بخيبر ، وإنه قال للبغلة : " قطع الله نسلك " فانقطع نسلها . هذا من الكذب البين ; فإنه يوم خيبر لم يكن معهم بغلة ، ولا كان للمسلمين بغلة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بغلته التي أهداها له المقوقس ، وذلك بعد غزوة خيبر ، بعد أن أرسل إلى الأمم ، وأرسل إلى ملوك الأرض [38] : هرقل ملك الشام ، وإلى المقوقس ملك مصر ، وإلى كسرى ملك الفرس . وأرسل إلى ملوك العرب [39] مثل صاحب اليمامة وغيره .

                  وأيضا فالجيش لم يعبر أحد منهم على يد علي ولا غيره ، والبغلة لم تزل عقيما قبل ذلك ، ولم تكن قبل ذلك تلد فعقمت ، ولو قدر أنه دعا على بغلة معينة لم تعم الدعوة جنس البغال .

                  ومثل هذا الكذب الظاهر قول بعض الكذابين : إنه لما سبي بعض أهل البيت حملوا على الجمال عرايا ، فنبتت لهم سنامات من يومئذ ، وهي البخاتي . وأهل البيت لم يسب أحد منهم في الإسلام ، ولا حمل أحد من نسائهم مكشوف العورة ، وإنما جرى هذا على أهل البيت في هذه الأزمان بسبب الرافضة ، كما قد علمه الخاص والعام .

                  بل هذا الكذب مثل كذب من يقول : إن الحجاج قتل الأشراف ، والحجاج [40] لم يقتل أحدا من بني هاشم ، مع ظلمه وفتكه بكثير من [ ص: 105 ] غيرهم ، لكن قتل كثيرا من أشراف العرب ، وكان الملك قد أرسل إليه أن لا يقتل أحدا من بني هاشم ، وذكر له أنه لما قتل الحسين في ولاية بني حرب - يعني ملك يزيد - أصابهم شر ، فاعتبر عبد الملك بذلك ، فنهاه أن يقتل أحدا من بني هاشم ، حتى إن الحجاج طمع أن يتزوج هاشمية ، فخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته ، وأصدقها صداقا كثيرا ، فأجابه عبد الله إلى ذلك ، فغضب من ذلك من غضب من أولاد عبد الملك ، ولم يروا الحجاج أهلا لأن يتزوج واحدة من بني هاشم ، ودخلوا على عبد الملك وأخبروه بذلك ، فمنع الحجاج من ذلك ، ولم يروه كفؤا لنكاح هاشمية ولا أن يتزوجها .

                  وبالجملة فالأحاديث التي ينقلها كثير من الجهال لا ضابط لها ، لكن منها ما يعرف كذبه بالعقل ، ومنها ما يعرف كذبه بالعادة ، ومنها ما يعرف كذبه بأنه خلاف ما علم بالنقل الصحيح ومنها ما يعرف كذبه بطرق أخرى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية