قال الرافضي [1] : " وفي غزاة أحد لما انهزم الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا علي بن أبي طالب ، ورجع [2] إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر يسير ، أولهم عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : لقد ذهبت فيها عريضة . وتعجبت الملائكة من شأن علي [3] ، فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء : لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي
وقتل أكثر [4] المشركين في هذه الغزاة ، وكان الفتح فيها على يده . وروى قيس بن سعد قال [5] : سمعت عليا يقول : أصابني [ ص: 97 ] يوم أحد ستة عشر ضربة [6] ، سقطت إلى الأرض في أربع منهن ، فجاءني رجل حسن الوجه ، حسن اللمة [7] ، طيب الريح ، فأخذ بضبعي ، فأقامني ، ثم قال : أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله ، فهما عنك راضيان . قال علي : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته ، فقال : يا علي أما تعرف الرجل ؟ قلت : لا ولكن شبهته بدحية الكلبي . فقال : يا علي أقر الله عينيك [8] ، كان ذاك جبريل " [9] .
والجواب : أن يقال : قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام ، التي لا تنفق إلا على من لم يعرف الإسلام ، وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات ، كقوله : " إن عليا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة ، وكان الفتح فيها على يده " .
فيقال : آفة الكذب الجهل . وهل كان في هذه الغزاة فتح ؟ بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولا ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكل بثغرة الجبل الرماة ، وأمرهم بحفظ ذلك المكان ، وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غلبوا ، فلما انهزم المشركون صاح بعضهم : أي قوم الغنيمة ! فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير ، ورجع العدو عليهم ، وأمير المشركين [ ص: 98 ] إذ ذاك خالد بن الوليد ، فأتاهم من ظهورهم ، فصاح الشيطان : قتل محمد . واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين ، ولم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا ، فيهم أبو بكر وعمر .
وأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ والحديث في الصحيحين [10] ، وقد تقدم لفظه [11] ، وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص ، وانصرف العدو عنهم منتصرا ، حتى هم بالعود [12] إليهم ، فندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين للحاقه .
وقيل : إن في هؤلاء نزل قوله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) [ سورة آل عمران: 172 ] ، وكان في هؤلاء المنتدبين : أبو بكر والزبير ، قالت عائشة لابن الزبير : أبوك وجدك ممن قال الله فيهم : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) [13] ، ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا نفر قليل ، وقصد العدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتهدوا في قتله ، وكان ممن ذب عنه [ ص: 99 ] يومئذ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وجعل يرمي عنه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له : " ارم فداك أبي وأمي " .
وفي الصحيحين عن سعد قال : جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبويه يوم أحد [14] . وكان سعد مجاب الدعوة مسدد الرمية .
وكان فيهم أبو طلحة راميا ، وكان [15] شديد النزع ، وطلحة بن عبيد الله : وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشلت يده . وظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين درعين ، وقتل دونه نفر .
قال ابن إسحاق في " السيرة " في النفر الذين قاموا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [16] : " ترس دون النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو دجانة بنفسه : يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه ، حتى كثر فيه النبل . ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي - صلى الله عليه وسلم . قال سعد : فلقد رأيته يناولني النبل ، ويقول [17] : " ارم فداك أبي وأمي " ، حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل ، فيقول : " ارم " [18] .
[ ص: 100 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين غشيه القوم : " من رجل [19] يشري لنا نفسه ؟ " . . . فقام [20] زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار - وبعض الناس يقول : إنما هو عمارة بن زيد [21] بن السكن - فقاتلوا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا ، ثم رجلا ، يقتلون دونه ، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة [22] ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " أدنوه مني " فأدنوه منه ، فوسده قدمه ، فمات وخده على قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - " .
قال [23] : " وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى عن قوسه [24] حتى اندقت سيتها [25] ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنته [26] . وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردها بيده وكانت [27] أحسن عينيه وأحدهما " [28] .
[ ص: 101 ] ولم يكن علي ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا مشغولين بقتال آخرين ، وجرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبينه ، ولم يجرح علي .
فقوله : " إن عليا قال أصابتني يوم أحد ست عشرة [29] ضربة ، سقطت إلى الأرض في أربع منهن " [30] .
كذب على علي ، وليس هذا الحديث في شيء من الكتب المعروفة عند أهل العلم . فأين إسناد هذا ؟ ومن الذي صححه من أهل العلم ؟ وفي أي كتاب من الكتب التي يعتمد على نقلها ذكر هذا ؟ بل الذي جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الصحابة .
قال ابن إسحاق [31] : " فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس [32] فجاء [ ص: 102 ] به رسول [33] الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منه ، فوجد له ريحا ، فعافه فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : " اشتد غضب الله على من أدمى [34] وجه نبيه " [35] .
وقوله : " إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام " كذب آخر .
وقوله : " إن جبريل قال وهو يعرج :
لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي
[36] " .كذب باتفاق الناس ; فإن ذا الفقار لم يكن لعلي ، ولكن كان سيفا لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر ، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال : تنفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه [ ص: 103 ] ذا الفقار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد . قال : " رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم ، ورأيت أني مردف كبشا ، فأولته كبش الكتيبة ، ورأيت أني في درع حصينة ، فأولتها المدينة ، ورأيت بقرا تذبح ، فبقر والله خير " فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم [37] .
وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهال : أنه كان له سيف يمتد إذا ضرب به كذا وكذا ذراعا ، فإن هذا مما يعلم العلماء أنه لم يكن قط ، لا سيف علي ولا غيره . ولو كان سيفه يمتد لمده يوم قاتل معاوية .
[ ص: 104 ] وقال بعض الجهال : إنه مد يده حتى عبر الجيش على يده بخيبر ، وإنه قال للبغلة : " قطع الله نسلك " فانقطع نسلها . هذا من الكذب البين ; فإنه يوم خيبر لم يكن معهم بغلة ، ولا كان للمسلمين بغلة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بغلته التي أهداها له المقوقس ، وذلك بعد غزوة خيبر ، بعد أن أرسل إلى الأمم ، وأرسل إلى ملوك الأرض [38] : هرقل ملك الشام ، وإلى المقوقس ملك مصر ، وإلى كسرى ملك الفرس . وأرسل إلى ملوك العرب [39] مثل صاحب اليمامة وغيره .
وأيضا فالجيش لم يعبر أحد منهم على يد علي ولا غيره ، والبغلة لم تزل عقيما قبل ذلك ، ولم تكن قبل ذلك تلد فعقمت ، ولو قدر أنه دعا على بغلة معينة لم تعم الدعوة جنس البغال .
ومثل هذا الكذب الظاهر قول بعض الكذابين : إنه لما سبي بعض أهل البيت حملوا على الجمال عرايا ، فنبتت لهم سنامات من يومئذ ، وهي البخاتي . وأهل البيت لم يسب أحد منهم في الإسلام ، ولا حمل أحد من نسائهم مكشوف العورة ، وإنما جرى هذا على أهل البيت في هذه الأزمان بسبب الرافضة ، كما قد علمه الخاص والعام .
بل هذا الكذب مثل كذب من يقول : إن الحجاج قتل الأشراف ، والحجاج [40] لم يقتل أحدا من بني هاشم ، مع ظلمه وفتكه بكثير من [ ص: 105 ] غيرهم ، لكن قتل كثيرا من أشراف العرب ، وكان الملك قد أرسل إليه أن لا يقتل أحدا من بني هاشم ، وذكر له أنه لما قتل الحسين في ولاية بني حرب - يعني ملك يزيد - أصابهم شر ، فاعتبر عبد الملك بذلك ، فنهاه أن يقتل أحدا من بني هاشم ، حتى إن الحجاج طمع أن يتزوج هاشمية ، فخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته ، وأصدقها صداقا كثيرا ، فأجابه عبد الله إلى ذلك ، فغضب من ذلك من غضب من أولاد عبد الملك ، ولم يروا الحجاج أهلا لأن يتزوج واحدة من بني هاشم ، ودخلوا على عبد الملك وأخبروه بذلك ، فمنع الحجاج من ذلك ، ولم يروه كفؤا لنكاح هاشمية ولا أن يتزوجها .
وبالجملة فالأحاديث التي ينقلها كثير من الجهال لا ضابط لها ، لكن منها ما يعرف كذبه بالعقل ، ومنها ما يعرف كذبه بالعادة ، ومنها ما يعرف كذبه بأنه خلاف ما علم بالنقل الصحيح ومنها ما يعرف كذبه بطرق أخرى .


