الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 115 ] ( فصل ) [1]

                  قال الرافضي [2] : " وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة [3] ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من للوائي ؟ [4] . فقال أبو بكر : أنا له ، فدفع إليه اللواء ، وضم إليه سبعمائة ، فلما وصل إليهم قالوا [5] . : ارجع إلى صاحبك ، فإنا في جمع كثير ، فرجع [6] ، فقال في [7] اليوم الثاني : من للوائي ؟ [8] . فقال عمر : أنا [9] . ، فدفع إليه الراية ، ( * ففعل كالأول ، فقال في اليوم الثالث [10] : أين علي ؟ فقال علي : أنا ذا [11] يا رسول الله ، [ ص: 116 ] فدفع إليه الراية * ) [12] ، ومضى إلى القوم ، ولقيهم [13] بعد صلاة الصبح ، فقتل منهم ستة أو سبعة ، وانهزم الباقون ، وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال : ( والعاديات ضبحا ) السورة [14] . [ سورة العاديات : 1 ] " .

                  فالجواب : أن يقال له : أجهل الناس يقول لك : بين لنا سند هذا ، حتى نثبت أن هذا نقل صحيح . والعالم يقول له [15] . : إن هذه الغزاة - وما ذكر فيها - من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقية ، الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة والبطال ، وإن كان عنترة له سيرة مختصرة ، والبطال له سيرة يسيرة ، وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم ، لكن ولدها الكذابون حتى صارت مجلدات ، وحكايات الشطار ، كأحمد الدنف والزيبق المصري ، وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر ، فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات ، لم يعرف في شيء من كتب المغازي والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة ، ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه ، كموسى بن عقبة ، وعروة بن الزبير ، والزهري ، وابن إسحاق وشيوخه ، والواقدي ، ويحيى بن سعيد الأموي [16] . ، والوليد بن مسلم ، ومحمد بن عائذ ، وغيرهم ، ولا لها ذكر في الحديث ، ولا نزل فيها شيء من القرآن .

                  [ ص: 117 ] وبالجملة مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، لا سيما غزوات القتال - معروفة مشهورة ، مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله ، مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه ، والتفسير والمغازي والسير ، ونحو ذلك ، وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها ، فيمتنع - عادة وشرعا - أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك ، كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات ، أو فرض في العام أكثر من صوم [17] . شهر رمضان ولم ينقل ذلك ، وكما يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غزا الفرس بالعراق ، وذهب إلى اليمن ، ولم ينقل ذلك أحد ، وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودا .

                  وسورة " والعاديات " فيها قولان : أحدهما : أنها نزلت بمكة ، وهذا يروى عن ابن مسعود وعكرمة ، وعطاء وغيرهم ، فعلى هذا يظهر كذب هذا القول . والثاني : أنها نزلت بالمدينة ، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة ، وهذا القول يناسب قول من فسر " العاديات " بخيل المجاهدين ، لكن المشهور عن علي ، المنقول عنه في كتب التفسير ، أنه كان يفسر " العاديات " بإبل الحجاج وعدوها من مزدلفة إلى منى . وهذا يوافق القول الأول ; فيكون على ما قاله علي يكذب هذا القول . وكان ابن عباس والأكثر يفسرونها بالخيل العاديات في سبيل الله [18] 208 . .

                  [ ص: 118 ] وأيضا : ففي هذه الغزاة أن الكفار نصحوا المسلمين ، وقالوا لأبي بكر : ارجع إلى صاحبك ; فإنا في جمع كثير . ومعلوم أن هذا خلاف عادة الكفار المحاربين .

                  وأيضا فأبو بكر وعمر لم ينهزما قط ، وما ينقله بعض الكذابين من انهزامهما يوم حنين ، فهو من الكذب المفترى .

                  فلم يقصد أحد المدينة إلا يوم الخندق وأحد ، ولم يقرب أحد من العدو المدينة للقتال إلا في هاتين الغزاتين [19] . .

                  وفي غزوة الغابة أغار بعض الناس على سرح [20] . المدينة .

                  وأما ما ذكر في غزوة السلسلة ، فهو من الكذب الظاهر الذي لا يذكره إلا من هو من أجهل الناس وأكذبهم .

                  وأما غزوة ذات السلاسل ، فتلك سرية بعث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص أميرا فيها ; لأن المقصودين كانوا بني عذرة [21] . ، وكان بينهم وبين عمرو بن العاص قرابة ; فأرسله إليهم لعلهم يسلمون ، ثم أردفه بأبي عبيدة بن الجراح ، وليس لعلي فيها ذكر ، وكانت قريبا من الشام بعيدة من المدينة ، وفيها احتلم عمرو بن العاص في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه ، فلما أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 119 ] " يا عمر : أصليت [22] . بأصحابك وأنت جنب ؟ " قال : إني سمعت الله يقول : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ سورة النساء : 29 ] ، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله ولم ينكره ; لما بين له عذره [23] . .

                  وقد تنازع الفقهاء هل قوله : أصليت بأصحابك وأنت جنب ؟ استفهام ، أي : هل صليت مع الجنابة ، فلما أخبره أنه تطهر بالتيمم ولم يكن جنبا أقره ، أو هو إخبار بأنه جنب ، والتيمم يبيح الصلاة ، وكان يرفع [24] . الجنابة ، على قولين ، والأول هو الأظهر .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية