[ ص: 115 ] ( فصل ) [1]
قال الرافضي [2] : " وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة [3] ، [4] . فقال : أنا له ، فدفع إليه اللواء ، وضم إليه سبعمائة ، فلما وصل إليهم قالوا أبو بكر [5] . : ارجع إلى صاحبك ، فإنا في جمع كثير ، فرجع [6] ، فقال في [7] اليوم الثاني : من للوائي ؟ [8] . فقال : أنا عمر [9] . ، فدفع إليه الراية ، ( * ففعل كالأول ، فقال في اليوم الثالث [10] : أين ؟ فقال علي : أنا ذا علي [11] يا رسول الله ، [ ص: 116 ] فدفع إليه الراية * ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من للوائي ؟ [12] ، ومضى إلى القوم ، ولقيهم [13] بعد صلاة الصبح ، فقتل منهم ستة أو سبعة ، وانهزم الباقون ، وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال : ( والعاديات ضبحا ) السورة [14] . [ سورة العاديات : 1 ] " .
فالجواب : أن يقال له : أجهل الناس يقول لك : بين لنا سند هذا ، حتى نثبت أن هذا نقل صحيح . والعالم يقول له [15] . : إن هذه الغزاة - وما ذكر فيها - من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقية ، الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة والبطال ، وإن كان عنترة له سيرة مختصرة ، والبطال له سيرة يسيرة ، وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم ، لكن ولدها الكذابون حتى صارت مجلدات ، وحكايات الشطار ، كأحمد الدنف والزيبق المصري ، وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر ، فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات ، لم يعرف في شيء من كتب المغازي والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة ، ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه ، كموسى بن عقبة ، ، وعروة بن الزبير ، والزهري وابن إسحاق وشيوخه ، ، والواقدي ويحيى بن سعيد الأموي [16] . ، ، والوليد بن مسلم ومحمد بن عائذ ، وغيرهم ، ولا لها ذكر في الحديث ، ولا نزل فيها شيء من القرآن .
[ ص: 117 ] وبالجملة مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، لا سيما غزوات القتال - معروفة مشهورة ، مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله ، مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه ، والتفسير والمغازي والسير ، ونحو ذلك ، وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها ، فيمتنع - عادة وشرعا - أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك ، كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات ، أو فرض في العام أكثر من صوم [17] . شهر رمضان ولم ينقل ذلك ، وكما يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غزا الفرس بالعراق ، وذهب إلى اليمن ، ولم ينقل ذلك أحد ، وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودا .
وسورة " والعاديات " فيها قولان : أحدهما : أنها نزلت بمكة ، وهذا يروى عن ابن مسعود وعكرمة ، وعطاء وغيرهم ، فعلى هذا يظهر كذب هذا القول . والثاني : أنها نزلت بالمدينة ، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة ، وهذا القول يناسب قول من فسر " العاديات " بخيل المجاهدين ، لكن المشهور عن ، المنقول عنه في كتب التفسير ، أنه كان يفسر " العاديات " بإبل الحجاج وعدوها من علي مزدلفة إلى منى . وهذا يوافق القول الأول ; فيكون على ما قاله علي يكذب هذا القول . وكان والأكثر يفسرونها بالخيل العاديات في سبيل الله ابن عباس [18] 208 . .
[ ص: 118 ] وأيضا : ففي هذه الغزاة أن الكفار نصحوا المسلمين ، وقالوا : ارجع إلى صاحبك ; فإنا في جمع كثير . ومعلوم أن هذا خلاف عادة الكفار المحاربين . لأبي بكر
وأيضا فأبو بكر لم ينهزما قط ، وما ينقله بعض الكذابين من انهزامهما يوم وعمر حنين ، فهو من الكذب المفترى .
فلم يقصد أحد المدينة إلا يوم الخندق وأحد ، ولم يقرب أحد من العدو المدينة للقتال إلا في هاتين الغزاتين [19] . .
وفي غزوة الغابة أغار بعض الناس على سرح [20] . المدينة .
وأما ما ذكر في غزوة السلسلة ، فهو من الكذب الظاهر الذي لا يذكره إلا من هو من أجهل الناس وأكذبهم .
وأما غزوة ذات السلاسل ، فتلك سرية بعث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرا فيها ; لأن المقصودين كانوا عمرو بن العاص بني عذرة [21] . ، وكان بينهم وبين قرابة ; فأرسله إليهم لعلهم يسلمون ، ثم أردفه عمرو بن العاص ، وليس بأبي عبيدة بن الجراح فيها ذكر ، وكانت قريبا من لعلي الشام بعيدة من المدينة ، وفيها احتلم في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه ، فلما أخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 119 ] " عمرو بن العاص : أصليت عمر [22] . بأصحابك وأنت جنب ؟ " قال : إني سمعت الله يقول : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ سورة النساء : 29 ] ، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله ولم ينكره ; لما بين له عذره يا [23] . .
وقد تنازع الفقهاء هل قوله : أصليت بأصحابك وأنت جنب ؟ استفهام ، أي : هل صليت مع الجنابة ، فلما أخبره أنه تطهر بالتيمم ولم يكن جنبا أقره ، أو هو إخبار بأنه جنب ، والتيمم يبيح الصلاة ، وكان يرفع [24] . الجنابة ، على قولين ، والأول هو الأظهر .