الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 247 ] باب

                  قال [1] الرافضي [2] : " الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر [3] . لنا في ذلك طرق : أحدها : النص . وقد توارثته الشيعة [4] في البلاد المتباعدة ، خلفا عن سلف ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للحسين [5] : " هذا إمام [6] ابن إمام أخو إمام ، أبو أئمة تسعة ، تاسعهم قائمهم ، اسمه كاسمي [7] ، وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورا وظلما " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : أولا : هذا كذب على الشيعة ; فإن هذا لا ينقله إلا طائفة [8] من طوائف الشيعة ، وسائر طوائف الشيعة تكذب هذا . والزيدية بأسرها تكذب هذا [9] ، وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم . والإسماعيلية كلهم يكذبون بهذا ، وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا ، إلا الاثني عشرية ، وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة .

                  [ ص: 248 ] وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدا ، وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة ، كلهم تكذب هذا [10] إلا فرقة واحدة ، فأين تواتر الشيعة ؟ !

                  الثاني : أن يقال : هذا معارض بما نقله غير الاثني عشرية من الشيعة من نص آخر يناقض هذا ، كالقائلين بإمامة غير الاثني عشر ، وبما نقله الراوندية أيضا ; فإن كلا من هؤلاء يدعي من النص [ غير ] [11] ما تدعيه الاثنا عشرية .

                  الثالث : أن يقال : علماء الشيعة المتقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص ، ولا ذكره في كتاب ، ولا احتج به في خطاب . وأخبارهم مشهورة متواترة ; فعلم أن هذا من اختلاق المتأخرين ، وإنما اختلق [12] هذا لما مات الحسن بن علي العسكري ، وقيل : إن ابنه محمدا غائب ، فحينئذ ظهر هذا النص ، بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من مائتين وخمسين سنة .

                  الرابع : أن يقال : أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة ، كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علما يقينا لا يخالطه الريب ، ويباهلونالشيعة على ذلك ، كعوام الشيعة مع علي . فإن ادعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا ، لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا .

                  [ ص: 249 ] الخامس : أن يقال : إن من شروط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط . وقبل موت الحسن بن علي العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر ، ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد ادعى إمامة [13] الاثني عشر ، وهذا القائم . وإنما كان المدعون يدعون النص على علي ، أو على ناس بعده وأما دعوى النص على الاثني عشر وهذا القائم فلا يعرف أحد قاله متقدما ، فضلا عن أن يكون نقله متقدما .

                  السادس : أن الصحابة لم يكن فيهم أحد رافضي أصلا ، وإن ادعى مدع على عدد قليل منهم أنهم كانوا رافضة فقد كذب عليهم . ومع هذا فأولئك لا يثبت بهم التواتر ; لأن العدد القليل المتفقين على مذهب يمكن عليهم التواطؤ على الكذب . والرافضة تجوز الكذب على جمهور الصحابة [14] ، فكيف لا يجوز على من نقل هذا النص - مع قلتهم - إن كان نقله أحد منهم ؟ وإذا لم يكن في الصحابة من تواتر به هذا النقل انقطع التواتر من أوله .

                  السابع : أن الرافضة يقولون : إن الصحابة ارتدوا عن الإسلام بجحد النص إلا عددا قليلا [15] نحو العشرة ، أو أقل أو أكثر ، مثل عمار ، وسلمان ، وأبي ذر ، والمقداد . ومعلوم أن أولئك الجمهور لم ينقلوا هذا النص ، فإنهم قد كتموه - عندهم - فلا يمكنهم أن يضيفوا نقله إلى هذه [ ص: 250 ] الطائفة . وهؤلاء كانوا - عندهم - مجتمعين على موالاة علي ، متواطئين على ذلك .

                  وحينئذ فالطائفة القليلة التي يمكن تواطؤها على النقل لا يحصل بنقلها [16] تواتر ; لجواز اجتماعهم على الكذب . فإذا كانت الرافضة تجوز على جماهير الصحابة - مع كثرتهم - الارتداد عن الإسلام ، وكتمان ما يتعذر في العادة التواطؤ على كتمانه ، فلأن يجوز على قليل منهم تعمد الكذب [17] بطريق الأولى والأحرى .

                  وهم يصرحون بكذب الصحابة إذا نقلوا ما يخالف هواهم [18] ، فكيف يمكنهم مع ذلك تصديقهم في مثل هذا ، إذا كان الناقلون [ له ] [19] ممن له هوى ؟

                  ومعلوم أن شيعة علي لهم هوى في نصره ، فكيف يصدقون في نقل النص عليه ، هذا مع أن العقلاء وأهل العلم بالنقل يعلمون أنه ليس في فرق المسلمين أكثر تعمدا للكذب وتكذيبا للحق من الشيعة ، بخلاف غيرهم ; فإن الخوارج [20] - وإن كانوا مارقين - فهم يصدقون ، لا يتعمدون الكذب ، وكذلك المعتزلة يتدينون بالصدق ، وأما الشيعة فالكذب عليهم غالب من حين ظهروا .

                  [ ص: 251 ] الوجه الثامن : أن يقال : قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين . وافترى ذلك عبد الله بن سبأ وطائفته الكذابون ، فلم يكونوا موجودين قبل ذلك . فأي تواتر لهم ؟ !

                  التاسع : أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تواترا عند العامة والخاصة من نقل هذا النص . فإن جاز أن يقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل ; فالقدح في هذا أولى . وإن كان القدح في هذا متعذرا ; ففي تلك أولى . وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة ، امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النص ، فإن مخالفته - لو كان حقا - من أعظم الإثم والعدوان .

                  العاشر : أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل ، فضلا عن أن يكون متواترا . وهذه الألفاظ ( * تحتاج إلى تكرير ، فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها ، وأين العدد الكبير [21] الذين حفظوا هذه الألفاظ * ) [22] كحفظ ألفاظ القرآن ، وحفظ التشهد والأذان ، جيلا بعد جيل إلى الرسول ؟

                  ونحن إذا ادعينا التواتر في فضائل الصحابة : ندعي تارة التواتر من جهة المعنى ، كتواتر خلافة الخلفاء الأربعة ، ووقعة الجمل وصفين ، [ ص: 252 ] وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وعلي بفاطمة ، ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس ، وكتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك . وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله .

                  الوجه الحادي عشر : أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت [23] يكذب مثل هذا النقل ، وأنهم لم يكونوا يدعون أنهم [24] منصوص عليهم ، بل يكذبون من يقول ذلك ، فضلا عن أن يثبتوا النص على اثني عشر .

                  الوجه الثاني عشر : أن الذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدد الاثني عشر مما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول : " لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم اثنا عشر رجلا " ، ثم تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمة خفيت عني ، فسألت أبي : ماذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قال : " كلهم من قريش " ، وفي لفظ : " لا يزال الإسلام [25] عزيزا إلى اثني عشر خليفة " ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، قلت لأبي : ما قال ؟ قال : " كلهم من قريش " . وفي لفظ : " لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة " [26] .

                  [ ص: 253 ] والذي في التوراة يصدق هذا . وهذا النص لا يجوز أن يراد به هؤلاء الاثنا عشر ; لأنه قال : " لا يزال الإسلام عزيزا " ، و " لا يزال هذا الأمر عزيزا " و " لا يزال أمر الناس ماضيا " وهذا يدل على أنه يكون أمر الإسلام قائما في زمان ولايتهم ، ولا يكون قائما إذا انقطعت ولايتهم . وعند [ هؤلاء ] [27] الاثني عشرية لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثني عشر ، بل مازال أمر الأمة فاسدا منتقضا [28] يتولى عليهم الظالمون المعتدون ، بل المنافقون الكافرون ، وأهل الحق أذل من اليهود .

                  وأيضا فإن عندهم ولاية المنتظر دائمة إلى آخر الدهر ، وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثني عشر . وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين : نوع يقوم فيه أمر الأمة [29] ، ونوع لا يقوم ، بل هو قائم في الأزمان كلها ، وهو خلاف الحديث الصحيح .

                  وأيضا فالأمر الذي لا يقوم بعد ذلك إلا إذا قام المهدي : إما المهدي الذي يقر به أهل السنة ، وإما مهدي الرافضة ، ومدته قليلة لا ينتظم فيها أمر الأمة [30] .

                  وأيضا فإنه قال في الحديث : " كلهم من قريش " ولو كانوا مختصين بعلي وأولاده لذكر ما يميزون به . ألا ترى أنه لم يقل : كلهم من ولد [ ص: 254 ] إسماعيل ، ولا من العرب ، وإن كانوا كذلك ; لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها ، فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم ، أو من قبيل علي مع علي لذكروا بذلك ، فلما جعلهم من قريش مطلقا علم أنهم من قريش ، بل لا يختصون بقبيلة ، بل بنو تيم [31] ، وبنو عدي ، وبنو عبد شمس ، وبنو هاشم ، فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية